عن
ابن عباس رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لو
يُعطى الناس بدعواهم ، لادّعى رجالٌ أموال قوم ودماءهم ، لكن البيّنة على
المدّعي واليمين على من أنكر ) حديث حسن ، رواه البيهقي وغيره هكذا ،
وبعضه في الصحيحين .
الشرح
جبل الله النفس على الضعف ، كما قال تعالى : { وخلق الإنسان ضعيفا } (
النساء : 28 ) ، وهذا الضعف يشمل الضعف النفسي ، والضعف البدني ، وقد يصبح
الضعف في بعض الأحيان مولداً للأخلاق الرديئة ، والصفات الذميمة ، حتى
يقود الإنسان إلى أن يدّعي على أخيه ما ليس من حقّه ، فيزعم أنه قد أخذ له
مالاً ، أو سفك له دماً ، أو أخذ أرضا ، بدعوات كثيرة ليست مبنية على دليل
أو برهان ، بل هي تهم باطلة قائمة على البغي والعدوان .
ولو كانت الموازين البشرية أو مقاييسها هي المرجعية فيما يقع بين الناس من
اختلاف ، لعمت الفوضى ، وانتشر الظلم ، وضاعت حقوق الناس ، وأُهدرت دماء
واستبيحت أموال بغير حق ، لكن من رحمة الله أنه لم يترك الناس هملا ، ولم
يكلهم إلى أنفسهم ، بل شرع لهم من الشرائع ما هو كفيل بتحقيق العدل
والإنصاف بين الناس ، وما هو سبيل لتمييز الحق من الباطل ، بميزان لا يميل
مع الهوى ، ولا يتأثر بالعاطفة ، ولكنه راسخ رسوخ الجبال ، قائم على
الوضوح والبرهان .
ومن هذا المنطلق أورد الإمام النووي رحمه الله هذا الحديث ، ليكون أصلا في
باب القضاء بين الناس ، إذ هو منهج يجب أن يسير عليه كل من أراد أن يفصل
بين خصومات الناس ، ليعود الحق إلى نصابه وأهله ، ويرتدع أصحاب النفوس
المريضة عن التطاول على حقوق غيرهم .
إن هذا الحديث يبيّن أن مجرد ادعاء الحق على الخصم لا يكفي ، إذا لم تكن
هذه الدعوى مصحوبة ببينة تبين صحة هذه الدعوى ، كما قال النبي صلى الله
عليه وسلم : ( لكن البيّنة على المدّعي ) .
وتعريف البيّنة : اسم جامع لكل ما يظهر الحق ويبيّنه ، وعلى هذا فهناك
أمور كثيرة يصدق عليها هذا المعنى ، فمن ذلك : الشهود ، فعندما يشهد
الشهود على حق من الحقوق فإن ذلك من أعظم البراهين على صدق المدّعي ، ومن
هنا أمرنا الله بالإشهاد في الدَّيْن حفظا لهذا الحق من الضياع فقال : {
واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون
من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } ( البقرة : 282 ) .
ومن البينات أيضا : إقرار المدعى عليه ، وهو في الحقيقة من أعظم الأدلة
على صحة الدعوى ، كما ذكر ذلك الفقهاء ، ومن هذا الباب أيضا : القرائن
الدالة على القضية ، وفهم القاضي للمسألة باختبار يجريه على المتخاصمين ،
إلى غير ذلك من أنواع البيّنات .
فإذا افتقرت هذه الخصومة إلى بينة تدل على الحق ، أو لم تكتمل الأدلة على
صحتها ، توجه القاضي إلى المدعى عليه ، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم
في هذا الحديث بالمنكر ، والمقصود أنه ينكر الحق الذي يطالبه به خصمه ،
وينكر صحة هذه الدعوى .
ويطلب القاضي من المدعى عليه أن يحلف على عدم صدق هذه الدعوى ، فإذا فعل
ذلك ، برئت ذمته ، وسقطت الدعوى ، والدليل على ذلك ما رواه الإمام مسلم في
صحيحه أن الأشعث بن قيس رضي الله عنه قال : " كانت بيني وبين رجل خصومة في
بئر ، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله : (
شاهداك أو يمينه ) .
ولعل سائلا يسأل : لماذا اختص المدعي بالبينة ، والمنكر باليمين ؟ وما هي
الحكمة من هذا التقسيم ؟ والجواب على ذلك : أن الشخص إذا ادعى على غيره
أمرا ، فإنه يدعي أمرا خفيا يخالف ظاهر الحال ، فلذلك يحتاج إلى أن يساند
دعواه تلك ببيّنة ظاهرة قوية تؤيد صحة دعواه ، بينما يتمسّك المنكر بظاهر
الأمر ، ويبقى على الأصل ، فجاءت الحجة الأضعف – وهي اليمين – في حقه .
فإذا لم يأت المدعي بالبينة ، وأنكر المدعى عليه استحقاق خصمه وحلف على
ذلك ، لزم القاضي أن يحكم لصالح المنكر ، لأنه حكمه هذا مبني على ظاهر
الأمر والحال .
لكن ثمة أمر ينبغي التنبيه عليه ، وهو أن قضاء القاضي لا يحل حراما ولا
يحل حلالا ، ولا يغير من حقائق الأمور ، لأن القاضي لا يعلم الغيب ، وقد
يكون هناك من الأدلة الزائفة أو الشهادات الكاذبة ما يخفى عليه فيحكم
بموجبها ، كما ثبت في البخاري و مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها ، عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال : ( إنما أنا بشر ، وإنكم تختصمون إلي ، ولعل
بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، وأقضي له على نحو مما أسمع ، فمن قضيت
له من حق أخيه شيئا فلا يأخذ ، فإنما أقطع له قطعة من النار ) ، وشدد
النبي صلى الله عليه وسلم على تخويف الناس من أخذ الحرام فقال : ( من حلف
على يمين يستحق بها مالا هو فيها فاجر – أي كاذب - ، لقي الله وهو عليه
غضبان ) ، وأنزل الله تصديق ذلك : { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم
ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم
يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم } ( آل عمران : 77 ) .
وعلى أية حال : فإن هذا الحديث تربية شاملة للأمة الإسلامية على الأمانة
في أقوالهم ، والعدل في أحكامهم ، دون النظر إلى لون أو جنس أو معرفة
سابقة ، وجدير بمجتمع يقوم على هذه القيم أن يكتب له التمكين على الأرض .