فالربا من السبع الموبقات، والذين يأكلونه لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، وقد آذن القرآن أكلة الربا بحرب من الله ورسوله وهو وعيد لم يرد مثله في معصية أخرى، وإن من يتتبع مشاكل العالم قديمها وحديثها يجدها أنها ترجع في النهاية إلى هذا المنكر الغليظ، فالمستثمر المسلم أكثر الناس تحوطا من الوقوع في مستنقع الربا وأبعد الناس عن التذرع إليه بعقود فاسدة ظاهرها الحل، وحقيقتها التحيل على استباحة ما حرمه الله ورسوله، وسيأتي تفصيل القول في ذلك في ثنايا هذه الدراسة بإذن الله.
قال تعالى مشيرا إلى تحريم الربا، ومتوعدا أصحابه بسوء العذاب في الدنيا والآخرة: (
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) [البقرة: 275، 276]
- وأعلن الحرب على أكلة الربا، وحث على إنظار المدينين المعسرين والتصدق عليهم ببعض ديونهم، فقال تعالى: (
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) [البقرة:278281].
-
وفي اعتبار الربا من الموبقات حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اجتنبوا السبع الموبقات) قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: ( الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات).
- وفي لعن كل من شارك في العملية الربوية بوجه من الوجوه سواء أكان آكلا للربا أم مؤكلا له أم كاتبا له أم شاهدا عليه حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:
لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا، وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: ( هم سواء).
- وفيما أعده الله لأكلة الربا من العذاب في الآخرة حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (
رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة، فانطلقا حتى أتينا على نهر من دم، فيه رجل قائم، وعلي وسط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد الرجل أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمي في فيه بحجر فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا؟ فقال الذي رأيته في النهر آكل الربا).
تجنب أكل أموال الناس بالباطل
فحرمة مال المسلم كحرمة دمه، ولا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه، ومن صور أكل أموال الناس بالباطل: الرشوة والغش والتدليس والمقامرة والنجش والغرر والاحتكار والغبن والمطل من الموسرين.. إلخ وقد ثبت النهي عن كل ذلك في الأدلة الصحيحة الأخرى، وسيأتي تفصيل ذلك في ثنايا هذه الدراسة بإذن الله.
قال تعالى: (
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ) [النساء: 29]،
فنهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يأكلوا أموال بعضهم بعضا بالباطل، أي بأنواع المكاسب الباطلة، كالربا والقمار والرشوة وما جرى مجرى ذلك من سائر أصناف الحيل والتصرفات التي تفضي إلى العداوات وأكل أموال الناس بالباطل.
وقال تعالى: (
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) [البقرة: 188] .
وفيها إشـارة إلى تحريـم الرشـوة، وأنه لا ينبغي لأحد أن يخاصم وهو يعلم أنه ظالم.
- ومما ورد في تحريم الغش حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا،
فقال: ( ما هذا يا صاحب الطعام؟!) قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: ( أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس مني).
- وإلى النهي عن الغرر يشير حديث أبي هريرة - في الصحيح -
قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر). فالنهي عن بيع الغرر أصل عظيم من أصول البيوع، ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة، كبيع المعدوم والمجهول وما لا يقدر على تسليمه وما لم يتم ملك البائع عليه.
وقد يحتمل بعض الغرر بيعا إذا دعت إليه الحاجة، كالجهل بأساس الدار وكبيع الشاة الحامل فإنه يصح البيع، لأن الأساس تابع للدار، والحمل تابع للشاة، ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك فإنه لا يمكن رؤيته.
- وفي تحريم النجش
النجش: هو الزيادة في ثمن السلعة ممن لا يريد شراءها ليقع غيره فيهاحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النجش) بناء على قاعدة أن كل بيع باطل فهو ربا، وهذه قاعدة يقول بها بعض أهل العلم ، وقال ابن أبي أوفى: الناجش آكل ربا خائن.
- وفي تحريم أن يبيع الرجل على بيع أخيه حتى لا يوغر بذلك صدره حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (
لا يبع بعضكم على بيع بعض) ، وفي رواية (
لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، إلا أن يأذن له).
- وإلى تحريم الاحتكار يشير حديث معمر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (
لا يحتكر إلا خاطئ).
والاحتكار: شراء السلعة في وقت الغلاء وحبسها ليغلو ثمنها مع حاجة الناس إليها.
والحكمة في تحريم الاحتكار رفع الضرر عن عامة الناس.
- وإلى سوء منقلب من يجترئ على أكل أموال الناس بالباطل وبالأيمان الفاجرة يشير حديث أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (
من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، فقال لـه رجـل: وإن كـان شيئـا يسيـرا يا رسول الله؟ قال: وإن قضيبا من أراك).
وما رواه مسلم عن ابن مسعود أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (
من حلف على مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله