الاستاذ ريتشارد سورج ريتشارد
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]سورج… اسم قد يبدو مجهولاً وغير مألوف، إذا ما وضعته أمام أي قارئ عادي،
في أي مكان في العالم، ولكنه يحتل في تاريخ الجاسوسية، مكانة فريدة
ومرموقة، لم ينافسه فيها أحد قط؛ فهو الجاسوس الوحيد عبر التاريخ، الذي
كان لدوره الفعّال الفضل، في حسم نتائج حرب عالمية كاملة..
الحرب العالمية الثانية..
أو بمعنى أدق، كان (سورج)، على الرغم من نهايته، أنجح جاسوس عرفه التاريخ، حتى لحظتنا هذه، قياساً بما حققه من نتائج في مهمته...
والكتاب الذي نستعرضه هذه المرّة، والذي يحوي قصة الجاسوس الفذ (سورج)، أو
(سيرجي)، كما يطلق عليه السوفيت، كتاب صدر في ستينات القرن العشرين،
وبالتحديد في شهر يونيو 1966م، عن دار القاهرة للطباعة والنشر، تحت عنوان
( الرجل ذو الوجوه الثلاثة)، وهو مترجم عن كتاب بنفس الاسم، للألماني
(هانز أوتو مسنر)، أصدرته، في نفس السنة، يناير 1966م، شركة (راينهارت)
للنشر في (نيويورك)....
وكان سبب اختيار المؤلف للعنوان، هو أن (سورج) كانت له ثلاث شخصيات، ووثقت
به ثلاث حكومات أجنبية، خدع بمنتهى المهارة اثنتين منها، ومنح إخلاصه
وولاءه كله للثالثة، لذا فقد اعتبره المؤلف صاحب ثلاثة وجوه ..
والمؤلف نفسه كان ملحقاً صغيراً، في السفارة الألمانية في (طوكيو)، قبيل
الحرب العالمية الثانية، ولقد كان (سورج)، وبعض أفراد شبكته الجاسوسية،
ضيوفاً في حفل زواجه، وكان بعضهم من أقرب الناس إليه، ولكنه لم يعرف أبداً
حقيقة (سورج)، حتى مابعد نهاية الحرب العالمية الثانية (1939-1945)...
ولقد راح (مسنر) يجمع المعلومات، من هنا وهناك، من الصحفيين، والزملاء،
والمراسلين، حتى أمكنه أن يكتب تاريخ (سورج) كله تقريباً، إلى الحد الذي
جعل كتابه أحد المراجع المهمة، لما يعرف الآن باسم (فن الجاسوسية)...
ونكتفي هنا بالحديث عن المؤلف؛ لنعود إلى صاحب الشخصية الرئيسية في الكتاب...
إلى (سورج)..
(ريتشارد سورج)...
ففي الملفات الرسمية، وصف (سورج) بأنه صاحب شخصية فريدة مبهرة، وثقافة واسعة، وذكاء مفرط، وجرأة وبراعة كادت كلها تبلغ حد الكمال..
هذا بالإضافة إلى حس مرهف، وقدرة مدهشة على فهم واستيعاب من أمامه، وسبر أغواره، والغوص في أعماقه حتى النخاع..
كذلك كان (سورج) يستطيع فهم من أمامه، وكشف طبيعته، وإجادة التعامل معه، بعد دقائق قليلة من لقائه الأوَّل به..
ويالها من موهبة خارقة، وجدت مستقرّها تماماً...
وهذا بالنسبة لطبيعتة الشخصية..
أما بالنسبة لمهاراته العملية، ومواهبه القيادية المدهشة، فحدِّث ولا حرج..
فبدقته وقوة شخصيته، أدار (سورج) أقوى وأنجح وأكمل شبكات الجاسوسية، داخل (الصين) و(اليابان)، خلال الحرب العالمية الثانية..
ولكن حتى هذا ليس سبب شهرته وأستاذيته، في عالم الجاسوسية، الذي لا
تتوقَّف الصراعات فيه لحظة واحدة، في الحرب، وفي السلم أيضاً، وإنما تعود
شهرته الفائقة، وأستاذيته المبهرة، التي أسهبت عشرات الكتب والمراجع في
وصفها، والإشادة بها، والانبهار بخطوطها، طوال أكثر من نصف قرن من الزمان،
إلى أنه الجاسوس الوحيد، في تاريخ الجاسوسية كله، الذي كان لنجاحه الفضل
الأوَّل، في تغيير مسار حرب طاحنة رهيبة..
و(ريتشارد سورج) هذا هو الابن الثاني لمهندس ألماني، عمل في حقول بترول
الإمبراطور، وحفيد (أدولف سورج)، السكرتير الخاص للمفكِّر (كارل ماركس)،
وأحد الذين اعتنقوا الشيوعية منذ مولدها..
ولأنه كان يشعر بالعار، كل العار، بسبب هذا، فقد بذل والد (سورج) قصارى
جهده؛ ليمحو من ذاكرته تماما أمر اعتناق والده للشيوعية، ولدفع الآخرين
إلى نسيان هذا أيضاً، وتمنى لو استطاع أن يمحوه من مجرى الزمن أيضاً، حتى
إنه ألحق ابنه (ريتشارد) بإحدى الفرق العسكرية الألمانية، إبان الحرب
العالمية الأولى، كدليل قاطع على ولائه، وانتمائه لألمانيا وإمبراطورها،
وقائدها، وأفكارها, ولكل ما يرتبط بها، ولو بأدنى رابطة أو صلة..
وعلى الرغم من أن (ريتشارد) قد أبلى بلاءً حسناً خلال الحرب الأولى، استحق
معه التقدير والثناء من رؤسائه، بل والترقية المحدودة أيضاً، إلا أن عقله
كان يستهجن ويحتقر القتال المباشر، والاشتباك الواضح الصريح، ويعتبر
كليهما وسيلة من لا عقل له، ويبني في أعماقه فكراً آخر، ومستقبلاً
مختلفاً..
وبعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، بدأ (سورج) في تحويل فكره وطموحاته إلى واقع عملي، وحقيقة ملموسة..
ومن جامعات (كييل) و(هامبورج)، حصل (ريتشارد سورج) على درجة الدكتوراه، في
العلوم السياسية، عام 1920م، وفي اليوم نفسه، وقبل حتى أن يجف حبر شهادة
الدكتوراه، كان يملأ استمارة الالتحاق بالحزب الشيوعي الألماني في
(هامبورج)..
وكان هذا أحد الأخطاء الكبيرة في حياته..
فالواقع أن هذا القرار كان وبالاً على رأس (سورج)، وخاصة في تلك الفترة،
التي تدهور خلالها الاقتصاد الألماني، وشارف الانهيار، وبات الحصول على
وظيفة ثابتة ومحترمة من رابع المستحيلات، حتى بالنسبة لعبقري يحمل شهادة
الدكتوراه مثله..
وهكذا تنقَّل (سورج) من وظيفة بسيطة إلى أخرى، ومن مدرِّس ابتدائي، إلى
موظف في منجم للفحم، وإلى منزل حقير، في حي صغير، من أحياء (هامبورج)
البسيطة..
ولكنه كان يشعر في أعماقه أن هذه ليست حتماً نهاية المطاف، وأن القدر مازال يدخر له الأفضل..
ولقد كان على حق تماماً، فقد كان القدر ينتظره هناك..
في ليلة باردة..
جداً.
نقطة التحوّل في حياة (ريتشارد سورج)، أشهر وأنجح جواسيس الحرب العالمية
الثانية، كانت تكمن في ذلك اللقاء المثير، الذي باغته على نحو غير متوقّع،
في منتصف ليلة من ليالي الشتاء الباردة، في قلب العاصمة الألمانية
(برلين)..
ففي تلك الليلة، فوجئ (سورج) بزيارة من واحد من أهم، وأشهر، وأخطر الرجال،
في تلك الفترة العصيبة، من تاريخ (ألمانيا)... (هنري تولمان)، رئيس الشرطة
السرية للحزب الشيوعي الألماني، والرجل الذي اشتهر بقسوته وبروده وصرامته،
ونظراته القادرة على تجميد الدم، في عروق أشجع الشجعان..
وداخل منزل (سورج) الحقير، التقى به (تولمان) وشرح له أن (موسكو) تهتم به
كثيراً، وتتابع حماسه للمبادئ الشيوعية، ثم أخبره في النهاية أن عليه أن
يسافر إلى (موسكو)، العاصمة الحمراء؛ ليلتقي ببعض المسؤولين هناك..
وسافر (سورج) إلى (موسكو)..
وهناك التقى بالرفيق (ديمتري مانولسكي)، رئيس قسم المخابرات الأجنبية في
(الكومنترن)، وخضع معه لعدد من الاختبارات والدراسات، لم يفصح عنها
الكتاب، ولكنها انتهت بعودته إلى (هامبورج)، وقد أصبح أحد العاملين في ذلك
العالم الغامض المثير..
عالم الجاسوسية..
كانت مهمته الرئيسية هي جمع المعلومات السياسية، من كل مكان يذهب إليه،
ورصد ردود الأفعال العالمية، تجاه التطورات الاجتماعية والاقتصادية
السريعة والعنيفة، التي تحدث في (ألمانيا) النازية، وأنه في سبيل نجاح
هذا، لابد وأن يخفي تماماً ميوله الشيوعية، ويتجنَّب حتى الإشارة إليها،
بل والبدء في معارضتها، ومحاربتها، والاختلاف معها تمام الاختلاف، لو
أُثير الأمر بأية صورة من الصور..
وعلى الرغم من أن القاعدة، في عالم المخابرات هي أن ينبهر العميل بالجهاز، إلا أن (سورج) قد هزم هذه القاعدة، وعكسها تماماً..
فلقد برع (سورج) في مهمته، وقام بها خير قيام، وبموهبة مدهشة، وبراعة
منقطعة النظير، طوال خمس سنوات كاملة، تلقَّى خلالها الكثير من التدريبات،
واكتسب عشرات المهارات والخبرات، وهضمها كلها بسرعة مذهلة، أبهرت السوفيت
تماماً..
كما تحوَّل (سورج) إلى جامعة شاملة في العلوم واللغات، وأجاد بطلاقة تامة،
الإنجليزية، والفرنسية، والروسية، واليابانية، مع عدد لا بأس به من
اللهجات الصينية..
باختصار، لم تمض تلك السنوات الخمس، حتى أصبح (ريتشارد سورج) واحداً من تلك الفئة النادرة في عالم الجاسوسية..
الفئة التي تحمل لقب (جاسوس كفء)..
وعبر (أوروبا)، ومن خلال عمله كمراسل صحفي متجوِّل، راح (سورج) يمارس
عمله، لينهال سيل من المعلومات المهمة والخطيرة، على السوفيت، الذين تضاعف
انبهارهم بكفاءة جاسوسهم وقدراته، فقرَّروا تطوير العملية كلها، ونقله إلى
مرتبة أكبر..
مرتبة العميل الخاص..
جداً..
وفي (موسكو)، التقى (سورج) بالكولونيل (بالدن)، رئيس المخابرات السوفيتية،
الذي أعلنه بالترقية، وبما تعنيه أدبياً ومالياً، ثم أسند إليه أولى
مهماته القوية..
لقد طلب منه السفر إلى (شنغهاي) في (الصين)، وجمع كل المعلومات الممكنة عن
جنرال شاب، وهو (شيانج كاي شيك)، والعمل على إعادة تأهيل شبكة جاسوسية
مهلهلة هناك..
وسافر (سورج) إلى (شنغهاي)..
وهناك التقى بأفراد شبكة الجاسوسية (المهلهلة)، وأخبرهم بصرامة أنه رئيسهم
الجديد، وبدأ يضع قواعد العمل الجديدة، في نفس الوقت الذي راح يجمع فيه
المعلومات عن (شيك)..
ومرة أخرى، أثار انبهار المخابرات السوفيتية ورجالها..
فقد حصل (سورج) على كل المعلومات المطلوبة، وأعاد بناء الشبكة، التي أُطلق
عليها اسم (وحدة الصين)، والتي بدأ أفرادها يتساءلون، في دهشة وانبهار، عن
رئيسهم الجديد، الذي لا ينام أبداً، والذي يعمل بنشاط جمّ، دون توقُّف أو
هوادة، والذي قام بخطوة بالغة الجرأة، إلى الحد الذي أذهلهم جميعاً،
وجعلهم يتعاملون معه بتقدير واحترام ومهابة بلا حدود، وكأنه إله الجاسوسية
نفسه..
فلقد أقنع (سورج) القنصل الأمريكي بتأجير حجرتين من منزله لرجل أعمال
واقتصاد ألماني، يُدعى (فريدريك مانهايم)، والذي لم يكن في الواقع سوى
جاسوس آخر، وخبير في الاتصالات اللاسلكية، يعمل لحساب السوفيت، ويُدعى
(ماكس كلوس)، وكانت حقائبه، التي انتقلت إلى منزل القنصل الأمريكي، تحوي
جهاز الاتصال اللاسلكي، الذي ظلّ يبث الأسرار والمعلومات إلى (موسكو)،
طوال عامين كاملين، دون أن يدرك الأمريكيون دورهم في هذا !!..
وبعد نجاحه المذهل، في إحياء (وحدة الصين)، التي تحوّلت من وحدة مهلهلة،
إلى واحدة من أقوى وحدات الجاسوسية السوفيتية، في العالم أجمع، قرّر
السوفيت استغلال مهارات وكفاءة (سورج)، في مجال حيوي آخر..
وانطلق (سورج) ليقتحم صحافة النازي، في قلب(برلين) نفسها، مؤيّداً بشهادة
اثنين من أصدقائه، الذين أشادا ببراعته وأمانته، وإخلاصه المتناهي لعمله..
وكانت خطوة بالغة الجرأة منه بالفعل!!..
إذ كان يكفي أن يقوم جهاز (الجستابو) بتحريات جادة عنه، لينكشف أمره، وتفتضح خدعته، ويسقط في قبضة أشرس جهاز أمني، في ذلك الحين..
ولكن من حسن الحظ، أن (الجستابو) كان آنذاك مشغولاً بما بدا له أكثر أهمية..
لقد اكتفى بشهادة الرجلين، وبالشهادات التي نالها (سورج)، وتركه يعمل في
منصب كبير الصحفيين والمراسلين الألمان، لجريدة (زيتونج)، الناطقة بلسان
الحزب النازي، ويسافر إلى أقرب حليف للنازية، في ذلك الحين..
إلى (طوكيو) مباشرة..
وهناك بدأت مرحلة جديدة..
وخطيرة..
للغاية.
في (طوكيو)، بدأ (سورج) طريقه بلعب أهم دور، في قصة أي جاسوس حذر، في أرض جديدة..
دور الجاسوس النائم..
ومصطلح الجاسوس النائم هذا يستخدم لوصف جاسوس، تم زرعه في منطقة الهدف،
أثناء مروره بمرحلة التوطين الأولى، التي يسعى خلالها لتثبيت أقدامه، في
المجتمع الجديد، ومد جذوره في أعماقه، ويحظر عليه تماماً التورُّط في أي
عمل تجسُسي خلال تلك المرحلة، مهما كانت المغريات؛ نظراً لاحتمال دفع أمر
ما تحت يمينه، لكشف هويته، وتحديد حقيقة انتمائه..
لذا فلم يمارس (سورج) أية أعمال جاسوسية على الإطلاق، في الفترة الأولى،
وإنما اكتفى بمد جذوره في المجتمع الياباني، وتوطيد صلاته واتصالاته،
وإقامة جسور من الثقة والصداقة، بينه وبين أبرز العناصر السياسية،
والاقتصادية، والعسكرية في (اليابان)، وعندما استقر به المقام، واطمأن إلى
قوة ثباته في المجتمع الياباني، بدأ (سورج) في بناء شبكة الجاسوسية
الجديدة..
وعلى الرغم من أن الشرطة السرية اليابانية (الكمبتاي)، كانت شديدة النشاط
في تلك الفترة، وتتعامل مع كل الأجانب باعتبارهم جواسيس، إلا أن (ريتشارد
سورج) قد تجاوز فترة التوطين الأولى، ونجح في إقامة صداقات وعلاقات قوية
متينة، داخل المجتمع الياباني، بل وداخل (الكمبتاي) نفسه، مما ساعده على
الخروج من مرحلة الكمون إلى مرحلة النشاط، والبدء في تنفيذ خطة تواجده
الرئيسية..
وخلال فترة محدودة، أنشأ (سورج) شبكة قوية فعَّالة، راحت (موسكو) تتابع
أخبارها بمنتهى الاهتمام الممزوج بالحذر، خاصة وأن (سورج) قد حدَّد
مصروفاتها الشهرية بثلاثة آلاف دولار، وهو مبلغ هائل في ذلك الحين..
ولكن سرعان ما أدركت (موسكو) أن شبكة (سورج) تستحق هذا..
بل وما هو أكثر منه أيضاً..
فقد حقَّقت الشبكة اليابانية أوَّل انتصاراتها، عندما التقط أحد أفرادها،
وهو الثري الياباني (أوزاكي)، محضر اجتماعات لجنة الدراسات الصينية، التي
تحدَّثت عن رغبة (اليابان) في احتلال (منشوريا) الصينية..
ولقد حدث الغزو الياباني بالفعل، وكانت كارثة عسكرية على كل المستويات، إذ
لم ينجح اليابانيون في احتلال (منشوريا) فحسب، وإنما أمكنهم احتلال شمال
(الصين) كله أيضاً، وفرض هيمنتهم وسيطرتهم على مساحة واسعة من الأراضي
الإستراتيجية..
وهنا، أدرك السوفيت أهمية وخطورة شبكة (سورج) اليابانية..
وبلا تردّد منحوا قائدها كل ما طلبه..
ثم فجّر (سورج) مفاجأة جديدة..
لقد أبلغ السوفيت أن الجيش الياباني في سبيله إلى الثورة، في فبراير
1936م، ثم لم تلبث ثورة الجيش أن حدثت، في التوقيت نفسه، وحملت في التاريخ
اسم (حادث فبراير)..
وهنا تأكَّد السوفيت من أهمية عميلهم وقوته، وبراعته المذهلة في جمع وتحليل أخطر وأدق المعلومات..
وكان من الطبيعي -والحال هكذا- أن يتم تصنيفه باعتباره عميل نادر، على
أعلى درجة من الأهمية والخطورة، وأن يتم إطلاع (ستالين) نفسه على تطورات
عمله، أوّلاً بأوّل..
وخلال الأشهر التالية، توالت معلومات (سورج) وتحليلاته، على نحو مدهش، فأخبر (موسكو) باتفاقية التعاون العسكري، بين (طوكيو)
و(برلين)، وأيد قوله هذه المرّة بصور المستندات، الدالة على هذا..
وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية، عام 1939م، كان (سورج) أشهر وأقوى
وأخطر جاسوس للمخابرات السوفيتية، في العالم كله، وكانت الشبكة اليابانية
التي أقامها، هي أنشط شبكات الجاسوسية، ليس في تلك الفترة، وإنما في تاريخ
المخابرات كله..
وعلى الرغم من اتفاقية الدفاع المشترك، التي وقَّعها (هتلر) مع (موسكو)،
وصلت معلومات إلى السوفيت، من عميلهم الفذ (ريتشارد سورج)، تحمل مفاجأة
مذهلة ومفزعة.
معلومات تؤكِّد أن (ألمانيا) ستهاجم الاتحاد السوفيتي قريباً..
وعلى الرغم من ثقتهم التامة في عميلهم (سورج)، شكك بعض قادة الجيش
السوفيتي في المعلومة، وبدا لهم أنه من غير المنطقي أن يشن (هتلر) حرباً
على (روسيا)، في الوقت الذي انشغلت فيه قواته كلها بضرب العاصمة
البريطانية (لندن)، لدفع الأسد البريطاني إلى الانهيار والاستسلام..
وفي الثاني والعشرين من يوينو 1941م، بدأ (هتلر) بالفعل عمليته (بارباروسا)؛ لغزو الاتحاد السوفيتي..
وهنا انمحت آخر ذرة شك، في براعة (سورج) وكفاءته، ودقة ما يرسله من معلومات..
وهنا أيضاً، بلغ نشاط الشبكة اليابانية ذروته، وراحت معلوماتها تنهال على
(موسكو)؛ لتنقل إليها أسرار اليابانيين أوَّلاً بأوَّل؛ إذ كان أخشى ما
تخشاه (موسكو)، هو أن يستغل اليابانيون حربها مع النازيين، للانقضاض عليها
من الخلف..
ونشطت شبكة (سورج) بكل قوتها، للبحث عن جواب هذا التساؤل القلق..
وعلى الرغم من حذره الغريزي، ودقته الفائقة، وشكوكه اللامتناهية، في كل من
يتعامل معه، وقع (سورج) في الخطأ الذي يمكن أن يقع فيه أي رجل، مهما بلغت
هويته..
لقد التقى ذات يوم بالراقصة اليابانية الفاتنة (كيومي)، وانبهر بها،
وبجمالها الفتّان، وسحرها الطاغي، وأطلق لغريزته العنان معها، على الرغم
من أنه لم يبد من قبل أبداً أدنى اهتمام بمثل هذه الأمور، حتى أنه لم
ينتبه إلى أمر بالغ الأهمية والخطورة..
لقد كانت (كيومي) تعمل في الواقع، لحساب مكتب الجاسوسية المضادة الياباني..
ولكن، وكجاسوس خبير ومحترف، واصل (سورج) عشق (كيومي)، دون أن يمنعه هذا من
مواصلة عمله، بنفس الدقة والاهتمام، متحدياً كل المخاطر كالمعتاد..
ثم فجأة وقعت في يده أخطر معلومة، يمكن أن يحصل عليها جاسوس على الإطلاق..
معلومة من مصادر عسكرية يابانية مطلِّعة، تؤكِّد أن (اليابان) لا تنوي
أبداً خوض الحرب، في الجبهة السيبيرية، مكتفية بحروبها في (الصين)
و(الهند الصينية)..
وكانت هذه المعلومة تساوي الكثير..
والكثير جداً..
مع وصول هذه المعلومة الخطيرة إلى (موسكو)، ومع ثقتها الشديدة في قوة
عميلها (سورج) وخطورته، نظراً لتاريخه السابق كله، اتخذت القيادة
السوفيتية قراراً بالغ الأهمية والخطورة..
لقد قرَّر قادة السوفيت سحب ما يقرب من مليوني جندي، من الجبهة السيبيرية، مع كل معداتهم، ودفعهم لمواجهة الألمان في الغرب..
وكان أخطر قرار تم اتخاذه، في تاريخ الحرب العالمية الثانية على الإطلاق؛
إذ أنه يترك الجبهة اليابانية عارية تماماً، ويلقي بثقل السوفيت كله على
الجبهة الألمانية..
وكانت نقطة تحوّل حاسمة، ليس في مسار محاولة الألمان لغزو الاتحاد السوفيتي فحسب، ولكن في مسار الحرب العالمية الثانية كلها..
لقد انهزمت (ألمانيا) النازية، أمام جنود (موسكو) وتراجعت، وظلت تتراجع
وتتراجع خلال السنوات التالية، حتى انهزمت هزيمة ساحقة في النهاية،
واندحرت على الجليد السوفيتي، وانهارت قياداتها، والسوفيت يدفعونها
أمامهم، حتى (برلين) نفسها..
وكانت الهزيمة ساحقة ماحقة، في ذلك الحين، هوى معها الرايخ الثالث من
حالق، وتحطّمت أسطورته بمنتهى العنف، حتى أن الفوهلر العظيم (أدولف هتلر)
آثر الانتحار، على الوقوع في قبضة السوفيت أو البريطانيين..
أما (سورج) نفسه، فبعد أن حقَّق أعظم انتصاراته، وأبلغ المخابرات
السوفيتية بأعظم معلومة، في الحرب العالمية الثانية كلها، وقع في خطأ
بسيط، تخلّى خلاله عن حذره الأسطوري، الذي لازمه طيلة عمره..
لقد قرأ ورقة تحوي بعض الأسرار العسكرية، أمام (كيومي)، ثم مزّقها وألقى
بها في سلة القمامة، على الرغم من أن ألف باء الجاسوسية، يحتم حرق الورقة،
أو التخلُّص منها بأية وسيلة حاسمة، ويحذر تماماً من إلقائها في سلة
المهملات، أو وسط القمامة..
وانتبهت (كيومي) للأمر..
ولأنها عميلة مخلصة ومحترفة، قامت (كيومي) بواجبها، وأبلغت الكولونيل
(أوزاكي)، الذي أمر رجاله بجمع كل قصاصة ورق، في سلة قمامة (سورج)،
وفرزها، وتجميعها، وإعادة لصقها..
ثم واجهه بتلك الورقة، قبل شروق شمس اليوم التالي..
وهكذا سقط (سورج)..
وسقطت شبكته اليابانية كلها..
المدهش للغاية، أن تلك المعلومة الأخيرة، التي لم يجد (سورج) الوقت
لإرسالها إلى (موسكو)، في تلك الفترة، والتي ألقي القبض عليه بسببها، كانت
أيضاً كفيلة بتغيير مسار الحرب كلها..
كانت معلومة تقول: إن الطائرات اليابانية تعتزم الهجوم على ميناء (بيرل هاربور) الأمريكي، فجر السادس من نوفمبر التالي..
وعند محاكمة (سورج)، بدا شامخاً قوياً مهيباً كعادته، وبدت نظراته حادة
صارمة، تخيف وترهب قضاته أنفسهم، حتى وهو يتلقَّى مع (أوزاكي) الحكم
بإعدامهما رمياً بالرصاص..
وفى السابع من نوفمبر 1944م، تم تنفيذ حكم الإعدام في الدكتور (ريتشارد
سورج)، خبير العلوم السياسية، ومراسل جريدة (زيتونج)، والجاسوس السوفيتي،
الذي حمل لقباً فريداً، بين كل الجواسيس، الذين عرفهم التاريخ..
لقب (الأستاذ)..
ونُكّست الأعلام في الاتحاد السوفيتي كله، حداداً على مصرعه..
وتم إصدار طابع بريد يحمل صورته..
ولكن هذا لم يحسم أسطورته..
فلسبب ما بدأ يتردّد خفية أن (سورج) لم يلق مصرعه فعلياً، وأن اليابانيين قد أطلقوا سراحه، بموجب صفقة ما...
ولم تؤيد اليابان هذا أو تنفِه، ولكن الراقصة الفاتنة (كيومي) أنهت فقرتها
ذات ليلة بفزع شديد، لتخبر صديقاتها، وهي ترتجف في رعب، أن (سورج) بين
روّاد الحانة، وأنه عاد ليقتلها، جزاء ما فعلته به..
ولم يصدّقها أحد.
وماتت (كيومي) في حادث غامض ذات ليلة تالية، لتترك خلفها لغزاً يرتبط بأخطر الجواسيس قاطبة..
(سورج)..
(ريتشارد سورج) ..
صاحب الوجوه الثلاثة..
الغامضة.