السؤال: أنا شاب مؤمن بالله وملتزم بما مكنني الله به من الالتزام وقعت بمشكلة مالية خطيرة جدا وعويصة وسدت بوجهي جميع أبواب السماء والأرض فأصبحت أمام خيارين كلاهما سيء الأول : استرجاع النقود بمساعدة شخص يتعامل مع الجن والثاني : الانتحار فأي الطريقين أسلك ؟؟؟
الجواب :
الحمد لله
أولا :
هون عليك أيها المسلم ، فما بعد الضيق إلا الفرج ، وإن مع العسر يسرا ، وكلما أغرق الليل في ظلامه اقتربت تباشير الصباح ، وسيأتي الفجر حتما ليمحو كل آثار الظلام الدامس ، وستشرق الشمس فعلا ، لينتشر النور في أرجاء الأرض ، وتظهر الحياة ، وجثوم الهم على قلب المسلم لا ينبغي أبدا أن يحيد به عن حسن الظن بالله ، وضرورة اللجوء إليه ، فما خاف غيره إلا ليأمن به ، وما اضطرته البلايا إلا إلى اللجوء إليه .
ولا تقل : سدت في وجهي أبواب السماء .
من ذا الذي سدها في وجهك ؟
ومن أين لك خبر السماء ؟
وكيف تسيء الظن بربك ؟ وهو الجواد الكريم سبحانه القائل – كما في الحديث القدسي الصحيح - :
( يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ ) .
رواه مسلم (2577) .
كيف تسيء الظن بمن بيده ملكوت السموات والأرض ؟ يدبر الأمر ، يصرف الآيات ، كل يوم هو في شأن ، يجيب داعيا ، و يعطي سائلا ، ويفك عانيا ، و يشفي سقيما ، ويكشف كربا ، ويجيب مضطرا ، ويغفر ذنبا ، ويحيي حيا ، ويميت ميتا ، ويربي صغيرا ، ويعتق رقابا ، ويعطي رغابا ، ويقحم عقابا .
وهو أجود الأجودين وأكرم الأكرمين ، يعطي عبده قبل أن يسأله فوق ما يؤمله ، يشكر على القليل من العمل وينميه ، ويغفر الكثير من الزلل ويمحوه ، لا يشغله سمع عن سمع ، ولا تغلطه كثرة المسائل ، ولا يتبرم بإلحاح الملحين ، يستحي من عبده حيث لا يستحي العبد منه ويستره حيث لا يستر نفسه ، ويرحمه حيث لا يرحم نفسه ، دعاه بنعمته وإحسانه ، وناداه إلى كرامته ورضوانه ، فأبي ، فأرسل في طلبه وبعث معهم إليه عهده ، ثم نزل سبحانه بنفسه وقال : من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟
وكيف لا تحب القلوب من لا يأتي بالحسنات إلا هو ، ولا يذهب بالسيئات إلا هو ، ولا يجيب الدعوات ويقيل العثرات ويغفر الخطيئات ويستر العورات ويكشف الكربات ويغيث اللهفات وينيل الطلبات سواه ؟
فهو أحق من ذكر ، وأحق من شكر ، وأحق من حمد ، وأحق من عبد ، وأنصر من ابتغى ، وأرأف من ملك ، وأجود من سئل ، وأوسع من أعطي ، وأرحم من استرحم ، وأكرم من قصد ، وأعز من التجيء اليه ، وأكفي من توكل عليه .
أرحم بعبده من الوالدة بولدها ، وأشد فرحا بتوبة عبده التائب من الفاقد لراحلته التي عليها طعامها وشرابه في الأرض المهلكة إذا يئس من الحياة فوجدها ، وهو الملك فلا شريك له ، والفرد فلا ند له ، كل شيء هالك إلا وجهه ، لن يطاع إلا بإذنه ، ولن يعصي إلا بعلمه .
يطاع فيشكر ، ويعصي فيغفر ، أقرب شهيد وأدنى حفيظ ، حال دون النفوس ، وأخذ بالنواصي وكتب الآثار ونسخ الآجال ، فالقلوب له مفضية ، والسر عنده علانية ، عنت الوجوه لنور وجهه ، وعجزت القلوب عن إدراك كنهه .
أكف جميع العالم ممتدة إليه بالطلب والسؤال ، ويده مبسوطة لهم بالعطاء والنوال ، يمينه ملأى ، لا يغيضها نفقة ، سحاء الليل والنهار ، وعطاؤه وخيره مبذول للأبرار والفجار ، له كل كمال ، ومنه كل خير ، له الحمد كله ، وله الثناء كله ، وبيده الخير كله ، وإليه يرجع الأمر كله ، فتبارك اسمه ، وتباركت أوصافه ، وتباركت أفعاله ، وتباركت ذاته ، فالبركة كلها له ومنه ، لا يتعاظمه خير سئله ، ولا تنقص خزائنه على كثرة عطائه وبذله.
"تفسير ابن كثير" (7/495) ، "الجواب الكافي" ( ص 166) ، "شفاء العليل" ( ص 184) .
فلا تقنط من رحمة الله ، ولا تيأس من روح الله ، وأحسن الظن به ، وتوكل حق التوكل عليه ، والجأ إليه في كل ما أهمك وألمّ بك ، واستعن به ولا تعجز ، واعلم أنه عند ظن عبده به : إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .
واعلم أن البلاء رحمة ، والمؤمن بين خيري مقدورين : نعماء يشكرها ، أو ضراء يصبر عليها .
وقد روى الترمذي (2398) عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً ؟ قَالَ : ( الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ : فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ ) .
صححه الألباني في "صحيح الترمذي" .
ثانيا :
الانتحار باب من أبواب العذاب ، وكبيرة من كبائر الذنوب ، ومسلك القانطين اليائسين من رحمة رب العالمين ، وهو القائل سبحانه على لسان خليله إبراهيم عليه السلام : ( وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ) [الحجر/56]
روى البخاري (5778) ومسلم (109) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
( مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا .
وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا .
وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا ) .
وروى البخاري (3463) ومسلم (113) عن جُنْدَب بْن عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ فَجَزِعَ فَأَخَذَ سِكِّينًا فَحَزَّ بِهَا يَدَهُ ، فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ) .
فاحذر يا عبد الله من تلك الجريمة ، والفعلة البائسة الضالة ، فإنك مهما أصابك من ألم وضر في الدنيا ، ومهما بلغت بك شدتك ، فهي أهون مرات ومرات من ذلك الجرم العظيم ، بل لا مقارنة بينهما أصلا ؛ أين تعب الدنيا ونصبها ، من جهنم وجحيمها ؟!
نسأل الله أن يفرج كربك ، ويهدي قلبك ، ويشرح صدرك .
ثالثا :
قد ذكرت طريقين ، وتسأل عن أيهما تسلك ؟ ونسيت طريقا ثالثة هي أهدى سبيلا ، وأرشد دليلا : صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض .
إنها طريق الأمن في أرض المخاوف ، وسبيل الرشد المنقذ من الضلال ، ونهج الراغبين الذين لا يزيدهم البلاء إلا رغبة فيما عند الله من الخير ، ورهبة مما عنده من العذاب .
يقول الله عز وجل : ( وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) الأعراف/168
أي : اختبرناهم بالخير والشدة ، والرغبة والرهبة ، والعافية والبلاء ، ليرجعوا إلى طاعة ربهم وينيبوا إليها ، ويتوبوا من معاصيه .
فكثيرا ما يكون البلاء أرحب أبواب التوبة والإنابة ، وأوضح طريق للرجوع إلى الله .
رابعا :
أكثر أهل العلم على أنه لا يجوز الاستعانة بالجن في الوصول إلى المفقود ، أو غير ذلك من المباحات ؛ لأنهم غالبا لا يعينون شخصا إلا إذا وصلوا لمأربهم منه ، من الخضوع لهم ، والوقوع في أنواع من الشرك والضلالات . نسأل الله العافية . قال الله تعالى : ( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ) الجن/6
قال الشيخ السعدي رحمه الله :
" أي: كان الإنس يعبدون الجن ويستعيذون بهم عند المخاوف والأفزاع ، فزاد الإنس الجن رهقا أي: طغيانا وتكبرا لما رأوا الإنس يعبدونهم، ويستعيذون بهم، ويحتمل أن الضمير في زادوهم يرجع إلى الجن ضمير الواو ؛ أي : زاد الجن الإنس ذعرا وتخويفا لما رأوهم يستعيذون بهم ليلجئوهم إلى الاستعاذة بهم ، فكان الإنسي إذا نزل بواد مخوف قال : " أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه " . انتهى . "تفسير السعدي" (890) .
قال علماء اللجنة الدائمة :
" الاستعانة بالجن أو الملائكة والاستغاثة بهم لدفع ضر أو جلب نفع أو للتحصن من شر الجن شرك أكبر يخرج عن ملة الإسلام والعياذ بالله - سواء كان ذلك بطريق ندائهم أو كتابة أسمائهم وتعليقها تميمة أو غسلها وشرب الغسول أو نحو ذلك ، إذا كان يعتقد أن التميمة أو الغسل تجلب له النفع أو تدفع عنه الضر دون الله " انتهى .
"فتاوى اللجنة" (1/134-135) .
وسئل علماء اللجنة :
ما حكم الإسلام في الذي يستعين بالجن في معرفة المغيبات كضرب المندل ؟
فأجاب علماء اللجنة :
" لا يجوز الاستعانة بالجن وغيرهم من المخلوقات في معرفة المغيبات لا بدعائهم والتزلف إليهم ولا بضرب مندل أو غيره ، بل ذلك شرك ؛ لأنه نوع من العبادة ، وقد أعلم الله عباده أن يخصوه بها فيقولوا : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عباس : ( إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله … الحديث ) انتهى .
"فتاوى اللجنة" (1/345-348)
وسئل الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك حفظه الله :
ترك جدنا تركة مخفية في بيت لنا قديم بحثنا عنها ولم نجدها ، وتعرفت على شخص أكد وجودها وأنه يستطيع إخراجها ، علماً أنه يستخدم الجن ، لكنه أقسم بالله أنه لا يشرك بالله عندما يستخدمهم وأنه لم يشرك بالله ، هل يجوز لي أن أستخدمه في إخراجها ؟ علماً أنه قال لي : أنا وأنت نذهب لأحد المشايخ ونسأله عن جواز ذلك من عدمه ، ولكنني لم أفعل ، علماً أنني سمعت أنه يجوز ذلك إذا لم يكن فيه إضرار بالآخرين ، وهو كذلك إذ التركة خاصة بنا وهي كبيرة جداً .
فأجاب الشيخ :
" ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث عدة أن من أتى كاهناً أو عرافاً فسأله عن شيء فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، والمعروف أن الكهان إنما يتلقون ما يخبرون به عن الشيطان مما يسترقه الشيطان من السماء ومما يطلعون عليه من أحوال الناس ، وعلى ذلك فهذا الذي يدعي أنه يعرف مكان ذلك المال ، وأنه يستعين بالجن في معرفة مكان هذا المال أو غيره من الأمور المخفية الظاهر من حاله أنه كاهن ، بل هو كاهن ولو زعم أنه لا يشرك ، ولو أقسم على ذلك ، فلا يجوز إذاً الاستعانة به على معرفة مكان هذا المال ، ولكن ابحثوا عن أسباب أخرى وتحروا لعلكم تعثرون على هذه التركة دون أن تتوسلوا بما حرم الله ، ولهذا نص بعض أهل العلم في تعريف الكاهن أنه الذي يخبر بالمغيبات في المستقبل ويدل على مكان المسروق وعلى الضالة ، فهذا مما يحترفه الكهان ويسألهم الناس فيه ، فالواجب على المسلم أن يحرص على سلامة دينه ولو فاته ما فاته من أمر الدنيا ، والله أعلم " انتهى .
وقال الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله :
" الاستعانة بالجن سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين وسيلة من وسائل الشرك ، والاستعانة معناها : طلب الإعانة ؛ ولهذا فمن المتقرر عند أهل العلم أنه لا يجوز طلب الإعانة من مسلمي الجن ؛ لأن الصحابة - رضوان الله عليهم - لم يطلبوا ذلك منهم ، وهم أولى أن تخدمهم الجن ، وأن تعينهم .
وأصل الاستعانة بالجن : من أسباب إغراء الإنسي بالتوسل إلى الجني ، وبرفعة مقامه ، وبالاستمتاع به ، وقد قال - جل وعلا - : ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا ) الأنعام / 128 ، فحصل الاستمتاع - كما قال المفسرون - من الجني بالإنسي : بأن الإنسي يتقرب إليه ، ويخضع له ، ويذل ، ويكون في حاجته ، ويحصل الاستمتاع من الإنسي بالجني بأن يخدمه الجني ، وقد يكون مع ذلك الاستمتاع ذبح من الإنسي للجني ، وتقرب بأنواع العبادات ، أو بالكفر بالله - جل وعلا - والعياذ بالله ، بإهانة المصحف ، أو بامتهانه أو نحو ذلك ؛ ولهذا نقول : إن تلك الاستعانة بجميع أنواعها لا تجوز ، فمنها ما هو شرك -كالاستعانة بشياطين الجن- يعني : الكفار - ومنها ما هو وسيلة إلى الشرك ، كالاستعانة بمسلمي الجن " انتهى .
"التمهيد لشرح كتاب التوحيد" (2/ 373-374) - ترقيم الشاملة .
والله أعلم .