هل أنا محاسَب على كل منكر أراه ؟ رأيت مثلا ناساً لا أعرفهم يسبون ، أو يتشاجرون ، أو رأيت أحداً يسمع الموسيقى ، أو سمعت شيئاً خطأ عن السنَّة كحديث ضعيف أو ما شابه ذلك ، هل أنا مسئول عنه / عنهم / يوم القيامة إذا لم أنصحهم ؟!
الحمد لله
أولاً :
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من شعائر الإسلام العظيمة ، وقد عدَّها بعض العلماء من أركان الدين ، والواجب على كل مسلم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وليس هذا لطائفة من المسلمين دون آخرين ، بل هو واجب على كل من يعلم شيئاً من دين الله تعالى أن يبلِّغه أمراً أو نهياً .
قال تعالى : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) آل عمران/110 .
وقال تعالى : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) آل عمران/104 .
وقال سبحانه وتعالى : ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ سورة المائدة الآية . كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) المائدة/78 ، 79 .
قال ابن عطية – رحمه الله - :
والإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه وأمن الضرر على نفسه وعلى المسلمين ، فإن خاف فينكر بقلبه ويهجر ذا المنكر ولا يخالطه .
انظر " تفسير القرطبي " ( 6 / 253 ) .
ثانياً :
ويُشترط لإقامة هذه الشعيرة شروط لا بدَّ من وجودها ، وأكثرها يتعلق بالآمر الناهي ، وبعضها يتعلق بذات الشعيرة .
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله - :
الشرط الأول : أن يكون عالماً بحكم الشرع فيما يأمر به أو ينهي عنه ، فلا يأمر إلا بما علم أن الشرع أمر به ، ولا ينهي إلا عما علم أن الشرع نهي عنه ، ولا يعتمد في ذلك على ذوق ، ولا عادة .
الشرط الثاني : أن يعلم بحال المأمور : هل هو ممن يوجَه إليه الأمر أو النهي أم لا ؟ فلو رأى شخصاً يشك هل هو مكلف أم لا : لم يأمره بما لا يؤمر به مثله حتى يستفصل .
الشرط الثالث : أن يكون عالماً بحال المأمور حال تكليفه ، هل قام بالفعل أم لا ؟
فلو رأى شخصاً دخل المسجد ثم جلس ، وشك هل صلي ركعتين : فلا يُنكر عليه ، ولا يأمره بهما ، حتي يستفصل .
الشرط الرابع : أن يكون قادراً على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا ضرر يلحقه ، فإن لحقه ضرر : لم يجب عليه ، لكن إن صبر وقام به : فهو أفضل ؛ لأن جميع الواجبات مشروطة بالقدرة والاستطاعة ؛ لقوله تعالى : ( فاتقوا الله ما استطعتم ) التغابن/16 ، وقوله : ( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ) البقرة/286 .
الشرط الخامس : أن لا يترتب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مفسدة أعظم من السكوت ، فإن ترتب عليها ذلك : فإنه لا يلزمه ، بل لا يجوز له أن يأمر بالمعروف أو ينهي عن المنكر .
" مجموع فتاوى الشيخ العثيمين " ( 8 / 652 – 654 ) مختصراً .
ثالثاً :
وإذا علمتَ أخي السائل أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان من واجبات الشريعة ، وتحققت الشروط الشرعية اللازمة لإقامتهما : فاعلم أن رؤيتك للمنكر وعدم نصحك لصاحبه سبب في ترتب الإثم عليك ، إلا أن يقوم غيرك بالإنكار عليه ؛ لأنه يكون فرض عينٍ عليك في حال أن تكون رأيت المنكر وليس ثمة من ينصحه غيرك ، فإن وُجد غيرك وقام عنك بهذا الشعيرة : فإنه يصير فرض كفاية ، يسقط عنك الإثم إذا قام بالواجب غيرك .
قال ابن قدامة – رحمه الله - :
واشترط قومٌ كون المنكِر مأذوناً فيه من جهة الإمام أو الوالي ، ولم يجيزوا لآحاد الرعية الحسبة ، وهذا فاسد ؛ لأن الآيات والأخبار تدل على أن كل مَن رأى منكراً فسكت عنه : عصى ، فالتخصيص بإذن الإمام تحكم .
" مختصر منهاج القاصدين " ( ص 124 ) .
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله - :
وقد يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضَ عينٍ ، وذلك في حق من يرى المنكر وليس هناك من ينكره وهو قادر على إنكاره ، فإنه يتعين عليه إنكاره لقيام الأدلة الكثيرة على ذلك ، ومن أصرحها قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( مَن رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) أخرجه مسلم في صحيحه .
" فتاوى الشيخ ابن باز " ( 3 / 212 ) .
رابعاً :
ولا فرق بين أن تكون هذه المنكرات في الشارع أو في البيت أو في العمل ، فإن استطاع المسلم إنكارها من غير ضرر يلحقه : فلا يُعذر بترك إنكارها .
قال الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله - :
فالمؤمنون والمؤمنات يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر , المؤمن لا يسكت ، إذا رأى مِن أخيه منكراً : ينهاه عنه , وهكذا إن رأى مِن أخته أو عمته أو خالته أو غيرهن , إذا رأى منهن منكراً : نهاهنَّ عن ذلك , وإذا رأى مِن أخيه في الله أو أخته في الله تقصيراً في الواجب : أنكر عليه ذلك , وأمره بالمعروف , كل ذلك بالرفق والحكمة ، والأسلوب الحسن .
فالمؤمن إذا رأى أخاً له في الله يتكاسل عن الصلوات أو يتعاطى الغيبة أو النميمة أو شرب الدخان أو المسكر أو يعصي والديه أو أحدهما أو يقطع أرحامه : أنكر عليه بالكلام الطيب ، والأسلوب الحسن , لا بالألقاب المكروهة والأسلوب الشديد , وبين له أن هذا الأمر لا يجوز له ... .
كل هذه المنكرات يجب على كل واحد من المؤمنين والمؤمنات والصلحاء إنكارها , وعلى الزوج والزوجة ، وعلى الأخ ، والقريب ، وعلى الجار ، وعلى الجليس ، وعلى غيرهم القيام بذلك كما قال الله تعالى في وصف المؤمنين والمؤمنات : ( يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) التوبة/71 ، وقال المصطفى عليه الصلاة والسلام : ( إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه ) ، , ويقول عليه الصلاة والسلام : (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) .
وهذا عام لجميع المنكرات ، سواء كانت في الطريق , أو في البيت ، أو في المسجد ، أو في الطائرة ، أو في القطار ، أو في السيارة ، أو في أي مكان , وهو يعم الرجال والنساء جميعاً , المرأة تتكلم ، والرجل يتكلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ لأن في هذا صلاح الجميع ونجاة الجميع .
ولا يجوز السكوت عن ذلك من أجل خاطر الزوج أو خاطر الأخ أو خاطر فلان وفلان , لكن يكون بالأسلوب الحسن والكلمات الطيبة , لا بالعنف والشدة , ومع ملاحظة الأوقات المناسبة , فقد يكون بعض الناس في وقت لا يقبل التوجيه ولكنه في وقت آخر يكون متهيئا للقبول , فالمؤمن والمؤمنة يلاحظان للإنكار والأمر بالمعروف الأوقات المناسبة ولا ييأس إذا لم يقبل منه اليوم أن يقبل منه غدا , فالمؤمن لا ييأس , والمؤمنة لا تيأس , بل يستمران في إنكار المنكر , وفي الأمر بالمعروف وفي النصيحة لله ولعباده مع حسن الظن بالله والرغبة فيما عند الله عز وجل .
" فتاوى الشيخ ابن باز " ( 4 / 50 ) .
خامساً :
وهل معنى ذلك أنه يجب عليه الإنكار على كل حالقٍ للحيته ، وكل مسبلٍ لإزاره ، وكل شاتم وساب يسمعه ؟ وهل يجب عليه التقاط كل ورقة فيها اسم الله من الشارع ؟ وهل يجب عليه الوقوف لكل خطيب يسمعه يحكي حديثاً ضعيفاً أو موضوعاً ؟
الجواب في كل ذلك - وما يشبهه - : لا ، لا يجب عليه فعل ذلك ؛ لتعذر هذا القيام بهذه الأمور من كل داعية إلى الله ، وخاصة أن أكثر من يراهم يفعلون المنكرات قد علموا حكم الله تعالى في فعلهم ، وقد أقيمت عليهم الحجة ، ولو أن الشرع أوجب عليه فعل ذلك لأفنى عمره في الوقوف مع أولئك العاصين ونصحهم على حساب القيام بمصالحه ومعاشه ، وهو مما لا يمكن أن تأت به الشريعة .
قال علماء اللجنة الدائمة :
يكفيك للخروج من الإثم والحرج : أن تنصح الناس بعدم استعمال ما ذكر فيما فيه امتهان ، وأن تحذرهم من إلقاء ذلك في سلات القمامة ، وفي الشوارع ، والحارات ، ونحوها ، ولست مكلفاً بما فيه حرج عليك مِن جعل نفسك وقفاً على جمع ما تناثر من ذلك في الشوارع ونحوها ، وإنما ترفع من ذلك ما تيسر منه دون مشقة وحرج .
الشيخ عبد العزيز بن باز ، الشيخ عبد الرزاق عفيفي ، الشيخ عبد الله بن غديان ، الشيخ عبد الله بن قعود .
" فتاوى اللجنة الدائمة " ( 4 / 73 – 75 ) .
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله - :
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية , إذا قام به مَن يكفي سقط عن الناس , وإذا لم يقم به من يكفي : وجب على الناس أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر , لكن لابد أن يكون بالحكمة ، والرفق ، واللين ؛ لأن الله أرسل موسى وهارون إلى فرعون وقال : ( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى )طه/44 ، أما العنف : سواء كان بأسلوب القول ، أو أسلوب الفعل : فهذا ينافي الحكمة , وهو خلاف ما أمر الله به .
ولكن أحياناً يعترض الإنسان شيء يقول : هذا منكر معروف , كحلق اللحية مثلاً , كلٌّ يعرف أنه حرام - خصوصاً المواطنون في هذا البلد - , ويقول : لو أنني جعلتُ كلما رأيت إنساناً حالقاً لحيته - وما أكثرهم - وقفتُ أنهاه عن هذا الشيء : فاتني مصالح كثيرة , ففي هذه الحال : ربما نقول بسقوط النهي عنه ؛ لأنه يفوِّت على نفسه مصالح كثيرة , لكن لو فرض أنه حصل لك اجتماع بهذا الرجل في دكان أو في مطعم أو في مقهى : فحينئذٍ يحسن أن تخوفه بالله , وتقول : هذا أمر محرم ، وأنت إذا أصررت على الصغيرة صارت في حقك كبيرة , وتقول الأمر المناسب .
" لقاءات الباب المفتوح " ( 110 / السؤال رقم 5 ) .
ونحن نأسف جدّاً على المسلمين الذين عصوا ربهم تعالى في لباسهم وسلوكهم وأفعالهم وأقوالهم ، ونحن نحث كل من استطاع أن يوصل رسالة الإسلام الصافية لهؤلاء أن يفعل ، وحيث يسمع المسلم أو يرى منكراً ويستطيع إنكاره أو تغييره فليفعل ، ولا يجب عليه ذلك في كل منكرٍ يراه أو يسمعه ، ولا شك أن المنكرات تتفاوت فيما بينها من حيث عظمها وقبحها ، وتتفاوت فيما بينها من حيث كونها تتعدى للآخرين أو يكون أثرها على العاصي نفسه فقط ، فحيث قبحت المعصية أو عظمت فالإنكار يتحتم على المسلم أكثر من المعاصي التي يقل قبحها وتخف عظمتها ، فمن سمع من يسب الله أو الدين ، فليس إثم ذلك وقبحه كمن سمع من يسب شخصاً من خصومه .
وحيث تتعدى المعصية للآخرين فيتحتم الإنكار أكثر مما لو كان أثرها على العاصي نفسه ، وهكذا ، والمهم في كل ذلك أن يبقى قلب المسلم حيّاً ينكر المنكر حيث يعجز عنه بيده أو لسانه ، ومن استطاع تغيير المنكر بيده ولسانه فلا يقصِّر في ذلك .
قال الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله - :
والإنكار بالقلب فرض على كل واحد ؛ لأنه مستطاع للجميع ، وهو بغض المنكر ، وكراهيته ، ومفارقة أهله عند العجز عن إنكاره باليد واللسان ؛ لقول الله سبحانه : ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) الأنعام/68 ، وقال تعالى في سورة النساء : ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ) الآية ، النساء/140 ، وقال تعالى : ( وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ) الفرقان/72 ، ومعنى لا يشهدون الزور لا يحضرونه .
" فتاوى الشيخ ابن باز " ( 3 / 212 ، 213 ) .