عن
أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : وعظنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب ، وذرفت منها العيون ، فقلنا : يا رسول
الله ، كأنها موعظة مودع فأوصنا . قال : ( أوصيكم بتقوى الله ، والسمع
والطاعة ، وإن تأمّر عليكم عبد ؛ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا ،
فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضّوا عليها بالنواجذ ،
وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة ) رواه أبو داود و الترمذي
وقال: حديث حسن صحيح.
الشرح
خلال ثلاث وعشرين سنة ،لم يدّخر النبي صلى الله عليه وسلم جهدا في تربية
الناس وإرشادهم ، فكانت حياته صلى الله عليه وسلم هداية للناس ، ونورا
للأمة ، يضيء لهم معالم الطريق ، ويبين لهم عقبات المسير وصعوباته .
لقد ظل هذا النبي الكريم على هذا المنوال طيلة حياته ، حتى جاء ذلك اليوم
الذي نزل عليه قوله تعالى : { إذا جاء نصر الله والفتح ، ورأيت الناس
يدخلون في دين الله أفواجا ، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا }
(النصر : 1 - 3 ) ، حينها أدرك دنوّ أجله ، وازداد يقينا بذلك حينما خيّره
الله بين البقاء في الدنيا والانتقال للدار الآخره ، وتكاثرت الإرهاصات
الدالّة على قرب لحوقه بربّه ، فأدركته الشفقة على أمته من بعده ، وأراد
أن يعظهم موعظة نافعة ، ووصية جامعة ، تعطيهم منهاجا متكاملا للتعامل مع
ما سيمرّ بهم من فتن ، وما قد يبتلون به من محن ، فتكون هذه الوصية لهم
بمثابة طوق النجاة في بحر الحياة الخِضم .
وكان لهذه الموعظة العظيمة أكبر الأثر في تلك النفوس الكريمة ، والمعادن
الأصيلة ، لقد استشعروا في هذه الوصية قرب فراق نبيهم للدنيا ؛ ولذلك ذرفت
عيونهم ، وخفقت قلوبهم ، وأحسوا بعظم الموقف ، مما جعلهم يقولون : " يا
رسول الله ، كأنها موعظة مودع فأوصنا " .
لقد طلبوا منه وصية تكفيهم من بعده ، وتكفل لهم البقاء على الجادّة ، وصحة
المسير ، فجاءتهم الوصية النبوية بتقوى الله ؛ فإنها جماع كل خير ، وملاك
كل أمر ، وفيها النجاة لمن أراد في الدنيا والآخرة .
ثم أتبع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر ببيان حقوق الإمام التي كفلها
الشرع، فقال : (.. والسمع والطاعة – أي : للأمير - ، وإن تأمر عليكم عبد )
، فالسمع والطاعة حقّان من حقوق الإمام الشرعي كما قال الله عزوجل : { يا
أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } ( النساء
: 59 ) ، وعن أم الحصين رضي الله عنها قالت : سمعت النبي صلى الله عليه
وسلم يخطب في حجة الوداع يقول : ( يا أيها الناس اتقوا الله ، واسمعوا
وأطيعوا وأن أمّر عليكم عبد حبشي مجدع ، ما أقام فيكم كتاب الله عز وجل )
رواه أحمد وأصله في البخاري ، وغيرها من النصوص الكثيرة الدالة على ذلك .
وعلى الرغم من دخول السمع والطاعة للإمام في باب التقوى ، إلا أن النبي
صلى الله عليه وسلم أفرده بالذكر ؛ تأكيدا على أهميته، وعظم شأنه وخطره .
لكن ثمة أمر ينبغي أن نلقي الضوء عليه ، وهو أن هذه الطاعة التي تلزم
للإمام الشرعي مشروطة بأن تكون موافقة لأحكام الشرعية ، وليست مستقلة
بنفسها ، فإذا تعارض أمره مع شرع الله ورسوله فلا تجب طاعته في ذلك ، ومما
يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا طاعة في المعصية ، إنما
الطاعة في المعروف ) رواه البخاري و مسلم .
وقد ذكر العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم : ( وإن تأمّر عليكم عبد )
أمران ، الأول: أن ذلك من باب الإخبار بالأمور الغيبية ، حين تُسند
الولاية إلى غير أهلها ، وتوضع في غير موضعها ، فهنا يجب له السمع والطاعة
درءا لحدوث الفتن ، والثاني : أن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر
جاء من باب ضرب المثل ، وذلك كقوله في الحديث الآخر : ( من بنى مسجدا لله
كمفحص قطاة أو أصغر ، بنى الله له بيتا في الجنة ) رواه ابن ماجة ، ومفحص
القطاة أقل من أن يتسع لفرد ، وأصغر من أن يكون مسجدا .
ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن اختلاف أمته من بعده ، وكيفية النجاة
من هذا الاختلاف ، لقد قال : ( فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا ،
فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ) ، إنها إشارة إلى ما سيؤول
إليه أمر الأمة من تفرّق يوهن قوتها ، وابتعاد عن الهدى والحق ، فوصف
الداء وبيّن الدواء ، وأرشدها إلى التمسك بسنته ، وسنة خلفائه الراشدين من
بعده ، الذين منّ الله عليهم بالهداية ومعرفة الحق ، والاستقامة على
المنهاج النبوي ، حتى صار عصرهم أنموذجا رفيعا يُقتدى به .
وفي ضوء ذلك، يمكن أن نفهم تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم الله على
التزام هديهم عندما قال : ( عضّوا عليها بالنواجذ ) ، والنواجذ هي آخر
الأضراس ، فهي إذاً كناية عن شدة التمسّك وعدم الحيدة عن هذا الطريق .
إن هذه النصيحة النبوية لتحمل في ثناياها التصوّر الواضح والتأصيل الشرعي
الصحيح الذي ينبغي على المسلم أن ينتهجه في حياته ، وبذلك تزداد الحاجة
إلى تأمل هذا الحديث واستخراج معانيه العظيمة ، نسأل الله تعالى أن يكتب
لنا العصمة من الضلال ، آمين .