عن
أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (
إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيّعوها ، وحدّ حدودا فلا تعتدوها ، وحرّم
أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء - رحمة لكم غير نسيان – فلا تبحثوا
عنها ) حديث حسن ، رواه الدارقطني وغيره .
الشرح
عندما نقف متأملين لهذا الحديث ، فإننا نلحظ ما فيه من استيعاب لأحكام
الشريعة الإسلامية ، وما فيه من توضيح لطبيعة هذا الدين وحقيقته ؛ ولأجل
ذلك أولى العلماء هذا الحديث اهتماما بالغا قادهم إلى دراسته واستخراج
معانيه ، وبلغ بهم أن قالوا عن هذا الحديث : " ليس في الأحاديث حديث واحد
أجمع بانفراده لأصول الدين وفروعه من هذا الحديث " .
وإذا نظرنا إلى هذا الحديث ، فإننا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد
حدد لنا معالم هذا الدين وطبيعته ، فعبّر عن شرع الله بألفاظ أربعة :
الفرائض والمحارم ، والحدود والمسكوت عنه ، وترتبط هذه الألفاظ ارتباطا
وثيقا محكما ، لترسم لنا التصوّر الصحيح للمنهج الذي ينبغي أن يسير عليه
المسلم في هذه الدنيا .
لقد كانت أول قضيّة يتناولها الحديث بيان موقف المكلّف نحو ما يرد عليه من
الأوامر في الكتاب والسنة فقال : ( إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيّعوها
) ، إنه توجيه إلى عدم التفريط في أداء الفرائض ، والفرائض هي الواجبات
الشرعية التي أوجبها الله على عباده وألزمهم بها ، ومنها ما يكون واجبا
على كل أفراد الأمة ، وهو ما يسمّى بالفرائض العينيّة ، ومنها ما هو واجب
على الكفاية ، أي : إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين .
فهذه الفرائض – بنوعيها – واجبة على كل مكلّف مادام مستطيعا ، وإذا ورد
الأمر من الله تعالى أو من رسوله صلى الله عليه وسلّم فلا مجال لردّه أو
عدم تنفيذه ؛ لأن هذا هو مقتضى إيمان العبد بالله ورسوله ، كما قال الله
تعالى في كتابه : { وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين } ( الأنفال : 1 )
، فهذه الطاعة هي هي عنوان العبودية والتسليم لحكم الله وشرعه .
وإذا تأمّلنا نصوص الوحيين فإننا نجد أنه قد جاء التعبير عن الفرض بكلمة
أخرى هي الواجب ، والحقيقة أنه لا فرق بين هذين اللفظين من حيث العمل ،
فكلاهما لازمٌ أداؤه ، لكن ذهب بعض أهل العلم – كالإمام أحمد وغيره - إلى
التفريق بينهما من ناحية المرتبة ، فجعلوا ما ثبت عن طريق الكتاب فرضا ،
وما ثبت عن طريق السنة واجبا ، وبعضهم جعل الفرض أعلى رتبة من الواجب ؛
لأن الفرض عندهم هو ما ثبت بدليل قطعي ، والواجب ما ثبت بالظن ، وعلى أية
حال فإن هذا تفريق اصطلاحي لا يؤثر على حكم العمل بهما .
أما فيما يتعلّق بالمحرّمات ، فقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى
تركها فقال : ( وحرّم أشياء فلا تنتهكوها ) ، فدعا إلى ترك المعاصي بجميع
أنواعها ، وإنما عبّر هنا بلفظ الانتهاك ؛ ليبيّن ما عليه حال من يقارف
المعاصي من تعدٍّ وعدوان على أحكام الله عزوجل ، فأتى بهذه اللفظة للتنفير
عن كل ما نهى الله عنه.
ولما كان مدار التكليف كله على فعل المأمور وترك المحذور ، والتقيد بأحكام
الشريعة ، والالتزام بما ورد فيها ، والوقوف عند حدودها وعدم تجاوزها ،
أكد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: ( وحدّ حدودا فلا تعتدوها ) .
والحدود لفظة وردت في مواضع كثيرة من الكتاب والسنة ، ولها مدلولات كثيرة
بحسب ما تتعلق به ، ففي الأوامر : يكون الوقوف عند حدود الله بعدم الخروج
عن دائرة المأذون به إلى دائرة غير المأذون ، وأما فيما يتعلّق بالنواهي
فيحرم مجرّد الاقتراب منها ؛ لأن الله تعالى إذا حرّم شيئاً ، حرّم كل ما
يؤدي إليه ، وتلك هي خطوات الشيطان التي جاء التحذير منها في قوله تعالى :
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان
فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر } ( النور : 21 ) .
فإذا كان هذا هو موقف المسلم تجاه ما ورد بيانه في الشريعة ، فما هو موقفه
تجاه ما سكت عنه الشرع ولم يوضح حكمه ؟ وللجواب عن هذا نقول : إذا لم يرد
نصّ في حكم مسألة ما ، فإننا نبقى على الأصل ، وهو الإباحة .
وهذا هو السكوت المقصود في قوله : ( وسكت عن أشياء - رحمة لكم غير نسيان –
فلا تبحثوا عنها ) ، إنه سكوت عن إظهار حكمه ، ومقتضاه أن يكون باقيا على
أصل إباحته ، وليس معنى هذا جواز الابتداع في الدين والزيادة فيه ، بحجة
أنه مسكوت عنه ؛ فإن الابتداع ليس مسكوتا عنه ، بل هو محرّم كما دلّت
الأدلّة على ذلك .
ومما سبق يتبين لنا معاني تلك الألفاظ الأربعة ، والتي ترشدنا إلى القيام
بحقوق الله ولزوم شريعته ، مع العفو عما سُكت عنه ، فدخل الدين كله في تلك
الكلمات القليلة الجامعة المانعة .