[b]السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الرجولة الحقيقية ........الغائبة
ليس كل الذكور رجالاً، ولا كل المؤمنين رجالاً، ولا كل أصحاب العضلات
المفتولة، أو الشوارب المبرومة، أو اللحى المسدولة، أو العمائم الملفوفة،
أو النياشين البراقة، أو الألقاب الرنانة رجالاً.
وبالرغم من كثرة المسلمين في هذا الزمان واقتراب أعدادهم من المليار ونصف،
إلا أنني أجزم أن أكبر أزمة تعانيها الأمة الآن - بعد أزمة الإيمان - هي
أزمة رجولة وقلة رجال.
والمتأمل في القرآن الكريم يكتشف أن الرجولة وصف لم يمنحه الحق تبارك
وتعالى إلى كل الذكور، ولم يخص به إلا نوعًا معينًا من المؤمنين، لقد منحه
لمن صدق منهم العهد معه، فلم يغير ولم يبدل، ولم يهادن، ولم يداهن، ولم
ينافق، ولم يتنازل عن دينه ومبادئه، وقدم روحه شهيدًا في سبيل الله، أو عاش
حياته في سبيله مستعدًا ومنتظرًا أن يبيعها له في كل وقت.
نفهم هذا من قول الله عز وجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا
عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ
مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23]، فقد بين سبحانه
صفات الرجولة بعد أن أكد أنه من المؤمنين رجال وليس كل المؤمنين رجالاً.
**والرجولة وقوف في وجه الباطل، وصدع بكلمة الحق.
ودعوة مخلصة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، واستعلاء على الكافرين،
وشدة على المنحرفين وأصحاب الأهواء، وابتعاد عن نفاق وتملق ومداهنة
السلاطين وأصحاب النفوذ، ومواجهة للظلم والظالمين مهما عظم سلطانهم، ومهما
كلف تحديهم، واستعداد للتضحية بالغالي والنفيس والجهد والمال والمنصب
والنفس من أجل نصرة الحق وإزالة المنكر وتغييره.
يفهم هذا من موقف مؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه، لكنه لم يستطع
السكوت عندما علم بعزم فرعون على قتل نبي الله موسى - عليه السلام -،وقرر
الوقوف في وجه الظلم، ومناصرة الحق، ولم يخش على حياته التي توقع أن يدفعها
ثمنًا لموقفه، ولم يخش على منصبه الكبير عند فرعون، فنهاه عن قتل موسى -
عليه السلام - وحاول إقناعه بأن ذلك ليس من الحكمة والمصلحة، ولم يكتف
بذلك، بل توجه إلى موسى وأخبره بما يخطط له فرعون وزبانيته، ونصحه بالخروج
من مصر.
وقد استحق هذا المؤمن وصف الله له بالرجولة فقال سبحانه:
**وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ
أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ
وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ
لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28], وأكد على وصفه
بالرجولة في موضع آخر فقال تعالى: **وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى
الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ
لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص: 20].
كما يفهم من موقف الرجل الصالح (حبيب النجار) الذي سمع أن قومه قد كذبوا
المرسلين، وهموا بقتلهم جميعًا، فلم يسكت عن هذا المنكر والظلم الذي سيقع
على المرسلين، وقرر نصرتهم، فجاء مسرعًا من أقصى المدينة، ودعاهم إلى الحق،
ونهاهم عن المنكر.
وقد فعل هذا وهو يعلم أن موقفه سيكلفه حياته، فحقق صفة الرجولة، واستحقها
من الله تعالى، إذ قال سبحانه:
**وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ
اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ
مُهْتَدُونَ وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ
بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ إِنِّي
إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس:
20-25].
ودفع هذا المؤمن الرجل ثمن موقفه كما توقع، فقتلوه، فتقبله الله شهيدًا،
ورضي عنه، ورفعه مباشرة إلى الجنة: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ
بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 26, 27]،
وقد استحق بسبب رجولته وغضبته لله أن يغضب الله له وينتقم من أعدائه
ويدمرهم: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ
مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً
وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يـس: 28, 29].
**والرجولة ثبات على الحق، ومحافظة على العبودية لله، وصمود أمام مغريات
الدنيا وشهواتها،
وكل ما يشغل الناس العاديين ويلهيهم عن ذكر الله تعالى وطاعته والتقرب
إليه، يفهم هذا من وصفه سبحانه وتعالى لهذا النوع من المؤمنين بالرجولة في
قوله عز وجل: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ
اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً
تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37].
**والرجولة قوامة على النساء:
ومن لا يملك هذه القوامة، ويرضى بأن تكون المرأة قوامة عليه حاكمة له،
ويدعها تنحرف وتتبرج، وتفعل ما تمليه عليها أهواؤها، فهو لا يستحق وصف
الرجولة، وإنما وصف الذكورة فقط، لأن الحق جل وعلا أكد أن الذي يملك
القوامة هم أصحاب الرجولة حيث قال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى
النِّسَاءِ ...} [النساء: 34].
**والرجولة تحريض على الجهاد، وتشجيع على مواجهة الباطل، وابتعاد عن
التثبيط والتعويق للصف المؤمن - ولو بالكلمة -
يفهم هذا من قصة موسى عليه السلام عندما بعث نفرًا من قومه لاستطلاع أحوال
الجبابرة قبل خوض القتال معهم، فرجعوا يروون لبني إسرائيل ما رأوه من
قوتهم، فأخافوهم، بينما كتم اثنان منهم أخبار قوة الجبابرة، ولم يخبرا إلا
موسى - عليه السلام -، وأخذا يشجعان قومهما على الجهاد في سبيل الله، وقد
استحق هذان المؤمنان على موقفهما هذا صفة الرجولة من الله تعالى الذي قال:
{قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا
ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ
غَالِبُونَ} [المائدة: من الآية23].
وعند التأمل في واقع المسلمين اليوم على ضوء مفهوم الرجولة في القرآن
الكريم يتبين لنا أن الأمة تعاني فعلاً من أزمة رجولة؛ فسكوت أغلب حكام
المسلمين عن مقدساتهم التي تدنس، ودمائهم التي تنزف، وكرامتهم التي تمتهن،
وأعراضهم التي تنتهك، وأرضهم التي تحتل، وثرواتهم التي تسرق، ناتج عن
انعدام الرجولة أو ضعفها عند هؤلاء- فضلاً عن ضعف الإيمان -,
فالرجل الحقيقي لا يستطيع أن يلتزم الصمت وهو يرى المسلمين في فلسطين
والعراق تمزقهم طائرات اليهود والأمريكان، ولا يطيب له عيش وهو يشاهد ما
يفعله أعداء الأمة بحرائر المسلمين وعلمائهم داخل السجون، خصوصًا إذا كان
في موضع المسئولية، ويملك الدبابات والطائرات والجيوش الجرارة.
عرب الجاهلية وعرب اليوم
لقد كان عرب الجاهلية أفضل حالاً من كثير من حكامنا وقادة جيوشنا اليوم،
فقد كانوا رجالاً بالرغم من كفرهم، فتجدهم يموتون دفاعًا عن أعراضهم
وكرامتهم وشرفهم وأموالهم، وقديمًا قال أحد شعرائهم زهير بن أبي سلمى:
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه **** يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
وقال عنترة بن شداد:
لا تسقــني ماء الحيــاة بــذلة *****بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
من صفات الرجولة
وهبوا النقص للفضل، والإساءة للإحسان، فصفت سرائرهم، ونصعت سيرهم، وسلمت
صدورهم، كل ذلك يرجون ما عند ربهم.
يقال لأحدهم: إن فلانا من الناس يقع فيك فيقول: (وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ
السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ) (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا)
ثم يقال له أخرى وقد ظُلم وبُهِت وسُبَّ وشتم: ألا تدعو على من ظلمك وسبك
وشتمك؟ فيقول: من دعا على ظالمه فقد انتصر، إن رسول الله –صلى الله عليه
وسلم- يقول:" اصبروا حتى تلقوني على الحوض".
يُسبُّ أحدهم ويشتم بما ليس فيه فيقول: إن كنت صادقًا فغفر الله لي، وإن
كنت كاذبًا فغفر الله لك. ويقال للثالث: إن فلانًا يقع فيك ويقول فيك كذا
وكذا، ويذكرك بسوء، فيقول: رجل صالح ابتلي فينا فماذا نعمل؟ من تعدى حدود
الله فينا لم نتعد حدود الله فيه، العفو أفضل.
ما ينفعك إن يعذب أخوك المسلم بسببك؟ لكن تعفو وتصفح وتغفر فيغفر الله لك.
أيها الأحبة؛ إن مكانة المؤمن أعز من أن يتساوى في الظاهر مع ظالمه، بل يرى
أن من الدين والمروءة أن يدعى إلى أن يشمخ على من يبدي الإسفاف، ويترفع عن
موقف يقوده إلى رفع صوت أو إثارة فضول أو جدل أو لجاج. وبعضنا -ويا للأسف-
يتخذ أخاه هدفًا ويجمع الجموع ليرجموه معه، ترى بعضنا يرفع ويخفض، ويجرح
ويعدل ويشي .
وليس مَلامِي عَلَى مَنْ وشَى******* ولكنْ ملامي عَلَى مَنْ وَعَى
اللوم على من يمنح الآذان الصاغية للوشاة ولأولئك. وا أسفاه يوم يسود عرف
التفاضح، ويوم تسترخى بيننا أيدي التصافح ليس المنزلة -والله- بأن تنال
لقبًا بتجريح إخوتك، إنما المنزلة أن تحتل في قلوب المؤمنين حيِّزًا،
أن تنادي ملائكة السماء أهل الأرض: أن أحبوا فلانا. صدقوا ولم نصدق، قلوب
امتلأت بخشية الله، وقلوب امتلأت بمحبة الله، ترجو ما عند الله، لا تتسع
لحقد أو ضغينة أو حسد لخلق الله، بل –والله- كانوا مشفقين على عباد الله؛
يعلمون الجاهل، وينبهون الغافل مغتنمين كل فرصة، مستفيدين من كل مناسبة.
يمر [أبو الدرداء] بجماعة تجمهروا على رجل يضربونه ويشتمونه، فقال لهم: ما
الخبر؟ قالوا: وقع في ذنب كبير، قال: أرأيتم ولو وقع في بئر أفلم تكونوا
تستخرجونه منه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تسبوه ولا تضربوه، لكن عِظُوه
وبصِّروه، واحمدوا الله الذي عافاكم من الوقوع في مثل ذنبه، قالوا: أفلا
تبغضه؟ قال: إنما أبغض فعله، فإذا تركه فهو أخي، فأخذ الرجل ينتحب ويعلن
توبته وأوبته، ليكون في ميزان أبي الدرداء -رضي الله عنه- يوم يقف بين يدي
الله (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللهُ
لَكُمْ) (وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَّحِيمٌ)
قال الشيخ العلامة سفر الحوالي: "إن الرجولة الحقيقية بمعناها العميق
العظيم والتي يتصف بها المؤمنون هي: إيقاظ القلب، وتحريك الجوارح، وابتعاث
الهمة؛ لإعلاء دين الله تبارك وتعالى، وإرغام أنوف الكافرين والمنافقين
والجاحدين والمعاندين من أجل كلمة الحق، من أجل (الله أكبر)، من أجل (لا
إله إلا الله)، هذه هي الرجولة التي يجب أن نتربى عليها ويجب أن نتعلمها
حاجة الأمة إلى الرجال ومطالب الصحابة
اجتمع أساطين الصحابة -رضوان الله عليهم- يومًا من الأيام فقال عمررضى الله
عنه: تمنوا.
فقال عثمان رضى الله عنه: أتمنى لو أن لي مثل هذه الدار مملوءة ذهبًا
ولؤلؤا وزبرجدًا وجوهرًا أنفقه في سبيل الله وأتصدق به.
وأما علي -رضي الله عنه-فقال: أتمنى أن أضرب بالسيف، والصوم بالصيف، وإكرام
الضيف.
وأما خالد رضى الله عنه فقال:أتمنى ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد يصبِّح
منها العدو ليجاهد في سبيل الله.
وأما عمر -رضي الله عنه- فيقول: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة برجال مثل
[أبي عبيدة]؛ أستعملهم في طاعة الله.
رجال أمناء كأمين الأمة، يستعملهم في طاعة الله، يا أيها الأحبة يتمنى عمر
هذه الأمنية في أي وقت، في وقت امتلأت فيه الساحة الإسلامية برجال عز
نظيرهم، وقل مثيلهم، وجل شبيههم
. فما أعظم حاجتنا اليوم إلى مثل هذه الأمنية، وقد افتقرت البلاد وأجدبت،
وعجزت النساء أن يلدن أمثال أولئك الرجال!
كم هي حاجة الأمة ماسة إلى أمين كأبي عبيدة بعد أن استشرت الخيانة. كم هي
حاجتنا ماسة إلى رجل كأبي عبيدة يرفع لواء الجهاد بعد أن استنوق الجمل،
وعاثت في الأرض الغربان، واستنسر في سماء الأمة بغاث الطير.
كم هي حاجة الأمة لأمين كأبي عبيدة في غيبة الأمناء، حتى صارت الأمة أضيع
من الأيتام على مأدبة اللئام، تداعت علينا الأمم، وتداعى الأكلة على
قصعتها، لا من قلة والله، ولكن غثاء كغثاء السيل، أحببنا الدنيا، وكرهنا
الموت، فكان ما كان.
كأني والله بقدوة من أولئك الصادقين يقول بلسان حاله وهو مرابط في قبره: وا
أسفاه، وا أسفاه، أأنتم أحفادنا؟ أأنتم من قرأتم القرآن؟ أأنتم من درستم
سيرة المختار؟
وا أسفاه نقشتم وصايا المختار على الجدران والأحجار، وكان الأحرى أن
تنقشوها على الجنان ، وا أسفاه، أما قلت لكم: أقيموا الصلاة؟ فما بالكم
تركتم الصلاة، وغادرتم المساجد لتعمروا المسارح والملاعب والملاهي.
وا أسفاه ، أما قلت لكم صوموا رمضان، وقوموه إيمانا واحتسابًا ؟ فما بالكم
تجعلونه شهر الطعام والفوازير والسهر على الحرام مع ضياع الأوقات؟
وا أسفاه ألم أقل لكم تصدقوا؟ فما بالكم بخلتم فما تنفقون درهمًا إلى على
أقدام راقصة أو لاعب أو صاحب مزمار أو آلة دمار وعار، عار وأي عار!
وا أسفاه ألم أقل لكم حجوا واعتمروا؟ فما بالكم جُبْتُم أقطار الدنيا، وبيت
الله منكم على مرمى حجر يهجر، أأنتم بشر؟ وا أسفاه، تغرقون في أزقة الغرب
ومواخيرها، ولا تعرفون الخندق ولا بدرًا ولا أحدًا ولا الحديبية، لا تعرفون
المقام ولا الحطيم ولا زمزم وتعرفون أزقة باريس وما أشبهها.
ألم أقل لكم انصحوا والدين النصيحة؟ فما بالكم اتقنتم صفة النفاق تَغُشُّون
وتُغَشُّون، والمؤمنون نصحة، والمنافقون غششة، واأسفاه يا رجال الحق!
ولا تكُ مِنْ معشرٍ تافهٍ *******يَقِيسُ السَّعَادَةَ بالدِّرْهَمِ.
يعيشُ وليسَ لهُ غايةٌ ****** سِوَى مشرب وسوى مطعم.
نماذج من الرجولة
لقد شجع النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين أن يكونوا رجالاً يقفون في
وجه الحكام الظالمين، وعد من يقف في وجههم فيقتلونه رجلاً وسيدًا للشهداء،
حيث قال: 'سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره
ونهاه فقتله'. [أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه]،
[أبو جندل]
بعد صلح الحديبية يُعاد إلى قريش فيستنجد بالمسلمين ويقول: يا معشر
المسلمين؛ أتردوني إلى أهل الشرك فيفتنوني عن ديني، ورسول الله –صلى الله
عليه وسلم- يسليه ويعزيه ويقول: اصبر واحتسب؛ فإن الله جاعل لك ولمن معك من
المستضعفين فرجًا ومخرجًا.
[وأبو بصير]، ما أبو بصير؟!
يخطط لحرب عصابات بعيدة عن نقد بنود صلح الحديبية، إذ جاء مسلمًا فارًّا
بدينه من قريش بعد صلح الحديبية، وبعد توقيع المعاهدة إلى <المدينة>،
فأرسلت قريش في طلبه رجلين، فسلمه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وفاءً
بالعهد إليهم.
وفي الطريق تمكَّن أبو بصير بشجاعته وحكمته وذكائه من قتل أحد الرجلين،
ويفر الثاني، ويرجع هو إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- ويقول: قد والله
أوفى الله ذمتك يا رسول الله، فلقد رددتني إليهم، ثم نجاني الله منهم،
فقال النبي –صلى الله عليه وسلم- كما في [البخاري]: "ويل أمِّه؛ مسعِّر حرب
لو كان معه أحد، مسعِّر حرب لو كان معه رجال"
فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده عليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر، واستقر به
المقام هناك، وفهم المستضعفون من عبارة الرسول –صلى الله عليه وسلم- وكانوا
أذكياء فهموا أن أبا بصير في حاجة إلى الرجال.
فأخذوا يفرون من <مكة> إلى أبي بصير، وكان على رأسهم أبو جندل، جاء
الفرج والمخرج كما أخبر بذلك النبي –صلى الله عليه وسلم-. اجتمع منهم عصابة
يتعرضون لقوافل قريش، فيقتلون حراسها، ويأخذون أموالها، وتضطر عندها قريش
مرغمة ذليلة راكعة أن ترسل إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- تناشده الله
والرحم أن يرسل إلى أبي بصير ومن معه؛ فمن أتاه فهو آمن. تنازلت عن هذا
الشرط تحت ضغط العصابة المؤمنة كأبي بصير وأبي جندل.
غير أن الفتى يلاقي المنايا ****** كالحات ولا يلاقي الهوانا.
وأرسل النبي –صلى الله عليه وسلم- إليهم وأبو بصير في مرض الموت، فمات
وكتاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بين يديه، وقدم أصحابه على رسول الله
–صلى الله عليه وسلم- آمنين سالمين غانمين قد جعلوا من أنفسهم أنموذجا
يُقتدى به في الثبات، والإخلاص، والعزيمة، والجهاد، وتمريغ أنوف المشركين،
والذكاء، وبذل الجهد في نصرة هذا الدين.
فقرروا مبدأ من المبادئ؛ ألا وهو قد يسع الفرد مالا يسع الجماعة. كل ذلك في
حكمة، وأي حكمة إذ كان ذلك بإشارة من النبي –صلى الله عليه وسلم-، وتشجيع
من النبي –صلى الله عليه وسلم- يوم وصف أبو بصير بأنه مسعِّر حرب لو كان
معه رجال، ثم إن أبا بصير خارج عن السلطة، ولو في ظاهر الحال، فلا مؤاخذة
على بنود المعاهدة، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا.
فرحم الله أبا بصير ومن هم على شاكلة أبى بصير من مرغوا أنوف الكفر فى
الوحل ولولا المنافقين والعملاء ممن ينتسبون للإسلام اسما لكان العدو فى
خبر كان.
عمار بن ياسر
عاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غزوة <ذات الرقاع> ونزل
المسلمون شعبًا من الشعاب ليقضوا ليلتهم، فلما أناخوا رواحلهم، قال رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-: من يحرسنا الليلة؟ فقام [عباد بن بشر]، [وعمار
بن ياسر]، وقد آخى بينهما رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقالا: نحن يا
رسول الله، خرجا إلى فم الشعب، فقال عبادُ لعمار: أتنام أول الليل أم آخره؟
فقال عمار: بل أنام أوله.
اضطجع عمار غير بعيد، وبقي عباد يحرس جند رسول الله، أرخى الليل سدوله،
وغارت نجومه، هدأت العيون، وسكنت الجفون، ولم يبقَ إلا الحي القيوم، عندها
تاقت نفس عباد للعبادة، واشتاق قلبه للقرآن، فقام يصلي؛ ليجمع متعة الصلاة
إلى متعة التلاوة، وطفق يقرأ سورة الكهف، يسبح مع آيات الله البينات، ويراه
رجل من المشركين يصلي على فم الشعب، فعرف أنه حارس جيش رسول الله- صلى
الله عليه وسلم- قال: لئن ظفرت به لأظفرن بجيش رسول الله –صلى الله عليه
وسلم على نبينا محمد- فوتر قوسه وتناول سهمًا من كنانته ورماه به فوضعه
فيه، فانتزعه عباد من جسده ورمى به، ومضى يتدفق في تلاوته، ورماه بالآخر
فانتزعه ومضى يتدفق في تلاوته، ورماه بالثالث فانتزعه، وإذا الدماء تنزف
منه، فزحف إلى عمار.
وأيقظه قائلا: لقد أثخنتني الجراح، عليك بثغر رسول الله –صلى الله عليه
وسلم-. ولَّى المشرك هاربًا، وأمَّا عمار فنظر –ويا للهول- أثخنته الجراح،
فقال: رحمك الله هلا أيقظتني من عند أول سهم رماك به.
فقال عباد: كنت في سورة أقرأها، فلم أحب أن أقطعها حتى أفرغ منها، وأيم
الله؛ لولا خوفي أن أضيع ثغرًا أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحفظه
لكان قطع نفسي أحب إلي من قطعها.
فلا نامت أعين التنابلة والكسالى والبطالين.
تلذذوا بمناجاة الله في الخلوات، فما عدلوا بذلك شيئًا. عبر أحدهم عن تلك
اللذة يوم قال: والله لولا قيام الليل بكلام الله ما أحببت البقاء في هذه
الدنيا. ووالله إن أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، وإنه
لتمر بالقلب ساعات يرقص القلب فيها طربًا بذكر الله، حتى أقول إن كان أهل
الجنة في مثل ما أنا فيه إنهم لفي نعيم عظيم وعبر الآخر عن لذته بمناجاة
الله بقوله: والله لو علم الملوك، وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه
بالسيوف، فقال قائل: وما الذي أنتم فيه تتلذذون، وبه تتلذذون؟ قال: لذة
مناجاة الله في الخلوات. هذه حالهم يا متأمل، هذه حالهم يا متبصر، فما
حالنا؟
كُثُرٌ لكنْ عديدٌ لا اعتدادَ بِهِ ****** جمعٌ لكنْ بديدٌ غيرُ متَّسِقِ
خَبِّرُونِي أين حِسِّكُمُ ****** لأزْيَدِ الوَخْزِ بالإبرِ
نطقنا بالعربية والقرآن فما نكاد نلحن، ولحنا بالعمل فما نكاد نعرب، قنعنا
بفصاحة اللسان مع عُجْمة الجنان
وكأنَ البرُّ فعلا دونَ قولٍ *** فصارَ البرُّ نُطقًا بالكلامِ
صهيب الرومى
صهيب قد أزمع الهجرة للحاق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يسعه أن يبق
بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجهز له كفار قريش فرقة مراقبة
تتابعه؛ لئلا يذهب بماله، وفي ذات ليلة أكثر من خروجه للخلاء للتعمية
والتغطية عليهم، فما يلبث أن يعود من الخلاء حتى يخرج مرة أخرى، وهم
يراقبونه حتى قال قائلهم: لقد شغلته اللات والعزى ببطنه، فقروا عينًا
الليلة، أسلموا أعينهم للكَرَى مطمئنين.
فتسلل صهيب من بينهم، ولم يمضِ إلا قليل حتى فطن له أولئك، فهبوا مذعورين
قلقين فزعين خائفين، وامتطوا الخيل، وأطلقوا أعنتها خلفه حتى أدركوه، ولما
أحس بهم –رضي الله عنه وأرضاه- وقف على مكان عال وأخرج سهامه من كنانته
–وهم يعرفون صهيب جيدًا- وبرى قوسه.
وقال: يا معشر قريش، تعلمون أني من أرمى الناس، والله لا تصلون إليَّ حتى
أقتل بكل سهم منكم رجلا، ثم أضربكم بسيفي ما بقي منه بيدي شئ، فقال قائلهم:
والله لا ندعك تفوز بنفسك ومالك؛ لقد أتيتنا صعلوكًا فقيرًا فاغتنيت وبلغت
ما بلغت ،ثم تذهب به كلا واللات، قال: أرأيتم إن تركت لكم مالي أتخلون
سبيلي، قالوا: نعم، فدلَّهم على موضع ماله، وأطلقوا سراحه، فانطلق فارًا
بدينه غير آسف على مالٍ أنفق زهرة العمر في تحصيله. يستفزُّه ويحدوه الشوق
إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فلما بلغ قباء رآه رسول الله –صلى الله
عليه وسلم- فهشَّ له وبشَّ وقال: " ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا
يحيى، ربح البيع أبا يحيى". الله، لا الدنيا وشهواتها وزخارفها ولذائذها
ومتعها لا تساوي ربح البيع أبا يحيى، علت الفرحة وجه صهيب، وحقًا والله ربح
البيع (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغاء مَرْضَاتِ اللهِ
وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ).
حبيب بن زيد والمهمة الشاقة
[حبيب] يكلف بمهمة شاقة؛ ليكون رسولا لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلى
[مسيلمة الكذاب].
يأخذ الرسالة غير وَانٍ ولا متريث ولا متردد، ترفعه النِّجاد، وتحطه الوهاد
حتى يبلغ أعالي <نجد>، ويسلم الرسالة إلى مسيلمة، فلما قرأها انتفخت
أوداجه، وبدا شره، ولو علم الله فيه خيرًا لأسمعه.
أمر بحبيب أن يقيد، وأن يعرض عليه من الغد، وما ضر حبيب وقد بلغ رسالة
الحبيب –صلى الله عليه وسلم- لما كان الغد أذن للعامة بالدخول عليه، وأمر
بحبيب فجيء به يرسف في قيوده وسط جموع الشرك الحاقدة، مشدود القامة، مرفوع
الهامة، شامخ الأنف بإيمانه.
التفت مسيلمة إليه وقال: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم، أشهد أنه
رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فتميز من الغيظ وقال: أتشهد أني رسول الله
–وخسئ-؟
فقال حبيب في سخرية: إن في أذني صمم عن سماع ما تقول، فيتغير لون وجهه،
وترتجف شفتاه غيظًا وحنقًا ليقول لجلاده: اقطع قطعة من جسده، فبتر الجلاد
قطعة من جسده لتتدحرج على الأرض.
ثم أعاد مسيلمة السؤال، أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم -صلى الله
عليه وسلم- قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إن في أذني صمم عن سماع ما
تقول، فأمر بقطع قطعة أخرى من جسده لتتدحرج على الأرض، فشخصت الناس
بأبصارها مدهوشة مشدوهة من تصميم هذا الرجل وثباته؛ ،
مضى مسيلمة يسأل والجلاد يقطع وحبيب يقول: أشهد أن محمدًا رسول الله، حتى
صار قطعًا منثورة على الأرض، ثم فاضت روحه وهو يردد محمد رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-، محمد رسول الله، محمد رسول الله.د
إن عذَّبوا الجسمَ فالإيمانُ معتصمٌ ****بالقلبِ مثلَ اعتصامِ اللَّيثِ
بالأَجَمِ
ثم يأتي الخبر لأمه -ويا لهول الخبر -الذي قطع إربًا إربًا وهو يقول: محمد
رسول الله، ما زادت –والله- يوم جاءها الخبر على أن قالت: من أجل هذا
الموقف أعددته، وعند الله احتسبته، لقد بايع الرسول -صلى الله عليه وسلم-
ليلة العقبة صغيرًا، ووفَّى له اليوم كبيرًا، فحمدت الله -سبحانه وتعالى-
كثيرًا
فلو كانَ النساءُ كمنْ ذكرنا ****** لفُضِّلتِ النساءُ على الرجالِ
وما التأنيثُ لاسمِ الشمسِ عيبٍ ******* ولا التذكيرُ فخرٌ للهلالِ
و في يوم اليمامة كانت تشق الصفوف كاللبؤة الثائرة تنادي: أين عدو الله
مسيلمة؟ فوجدته مجندلا على الأرض، سيوف المسلمين قد ارتوت من دمه، فطابت
نفسًا، وقرَّت مضى حبيب ومسيلمة مضى حبيب ومسيلمة إلى ربهما، وشتَّان ما
بينهما، فريق في الجنة، وفريق في السعير. رضي الله عنهم؛ ضحوا بكل شئ،
وصدقوا الله فصدقهم الله، وأقر أعينهم بنصرة دينه وإعلاء كلمته.
مواكبُ الله سارَتْ لا يُزَعْزِعُهَا ** عاتٍ منَ البحرِ أو عالٍ من الأطم.
لا يهتفونَ لمخلوقٍ فقدْ علمُوا ** * * أنَّ الخلائقَ والدنيا إلَى
العَدَمِ.
قتيبةبن مسلم
[قتيبة] في الجانب الآخر في شرق الكرة الأرضية ذاك في غربها وهذا في شرقها
يفتح المدن والقلوب، حتى يقف على أطراف مملكة <الصين> ويقسم بالله
ليطأن بأقدام فرسه تلك المملكة، ويسمع ملكها فيهلع ويخاف ويجزع، ويعلم أن
هؤلاء إذا قالوا فعلوا، فيرسل صِحَافًا من ذهب مملوءة بتربة أرض الصين؛
ليبرَّ قسم قتيبة، وتطأ خيل قتيبة تلك التربة، وتكون الصحاف مقدمة الجزية،
وأربعة من أبنائه يوضع عليهم وسام المسلمين فيا لله!
مهلا حماةَ الضَيْمِ إنَّ لِلَيلِنا *** فجرًا سيطْوِي الضَيمُ في أطمارهِ
وإذا بنا بعد فترة نسمع خليفة المسلمين(هارون الرشيد) يخاطب السحابة وهو
على كرسيه، ويقول: أمطري أنَّى شئت؛ فسوف يأتيني خراجك. فصارت الكرة
الأرضية ما بين مسلم حقًا وكافر يدفعُ الجزيةَ عنْ يدٍ وهو صَاغِرٌ.
كنا جبالا كالجبال وربما***** سرنا وراء موج البحار بحارا.
كنا عظاما فصرنا عظاما ***** كنا نقوت فها نحن قوت.
لعلها هدأة الأسد قبل نفاره. صدقوا ما عاهدوا، صدقوا في التجرد لله، وطلب
الأجر العظيم من الله، فأنعم به من تطلع لا يعدله شئ من تكريم الدنيا.
نماذج حديثة من الرجال
السلطان الذي قبل يد شيخه
كان السلطان (محمد الفاتح) يكن لأستاذه الشيخ (آق شمس الدين) مشاعر الحب ،
والإجلال ، والتوقير ، ويزوره على الدوام ، حيث يستمع لأحاديثه ونصائحه ،
ويستفيد من علمه الغزير.
وكان أستاذه هذا مهيباً لا يخشي سوى الله ، لذا فإنه عند قدوم السلطان
(محمد الفاتح) لزيارته ، لا يقوم له من مجلسه ، ولا يقف له. أما عند زيارته
للسلطان (محمد الفاتح) فقد كان السلطان يقوم له من مجلسه توقيراً له ،
واحتراماً ويجلسه بجانبه. وقد لاحظ ذلك وزار السلطان وحاشيته ، لذا لم يملك
الصدر الأعظم (محمود باشا) من إبداء دهشته للسلطان فقال له : لا أدري يا
سلطاني العظيم ، لم تقوم للشيخ (آق شمس الدين ) عند زيارته لك ، من دون
سائر العلماء والشيوخ ، في الوقت الذي لا يقوم لك تعظيماً عند زيارتك له
؟!.
فأجابه السلطان : أنا أيضاً لا أدري السبب … ولكني عندما أراه مقبلاً علي ،
لا أملك نفسي من القيام له … أما سائر العلماء والشيوخ ، فإني أراهم
يرتجفون من حضوري ، وتتلعثم ألسنتهم عندما يتحدثون معي ، في الوقت الذي أجد
نفسي أتلعثم عند محادثتي الشيخ (آق شمس الدين).
وفي فتح القسطنطينية أراد السلطان أن يكون شيخه بجانبه أثناء الهجوم فأرسل
إليه يستدعيه، لكن الشيخ كان قد طلب ألا يدخل عليه أحد الخيمة ومنع حراس
الخيمة رسول السلطان من الدخول، وغضب محمد الفاتح وذهب بنفسه إلى خيمة
الشيخ ليستدعيه ، فمنع الحراس السلطان من دخول الخيمة بناءً على أمر الشيخ ،
فأخذ الفتح خنجره وشق جدار الخيمة في جانب من جوانبها ونظر إلى الداخل
فإذا شيخه ساجداً لله في سجدة طويلة وعمامته متدحرجة من على رأسه وشعر رأسه
الأبيض يتدلى على الأرض ، ولحيته البيضاء تنعكس مع شعره كالنور ،
ثم رأى السلطان شيخه يقوم من سجدته والدموع تنحدر على خديه ، فقد كان يناجي
ربه ويدعوه بإنزال النصر ويسأله النصر ويسأله الفتح القريب. وعاد السلطان
محمد (الفاتح) عقب ذلك إلى مقر قيادته ونظر إلى الأسوار المحاصرة فإذا
بالجنود العثمانيين وقد أحدثوا ثغرات بالسور تدفق منها الجنود إلى
القسطنطينية ، ففرح السلطان بذلك وقال: ليس فرحي لفتح المدينة إنما فرحي
بوجود مثل هذا الرجل في زمني.
وذكر الإمام الشوكاني صاحب البدر الطالع أن ( ثم بعد يوم – من الفتح - جاء
السلطان إلى خيمة ( آق شمس الدين) وهو مضطجع فلم يقم له ، فقبل السلطان يده
وقال له : جئتك لحاجة،
قال : وما هي ؟ قال: أن ادخل الخلوة عندك، فأبى، فأبرم عليه السلطان مراراً
وهو يقول: لا.
فغضب السلطان وقال: إنه يأتي إليك واحد من الأتراك فتدخله الخلوة بكلمة
واحدة وأنا تأبى علي ، فقال الشيخ : إنك إذا دخلت الخلوة تجد لذة تسقط
عندها السلطنة من عينيك فتختل أمورها فيمقت الله علينا ذلك ، والغرض من
الخلوة تحصيل العدالة ، فعليك أن تفعل كذا وكذا - وذكر له شيئاً من النصائح
- ثم أرسل إليه ألف دينار فلم يقبل ،
ولما خرج السلطان محمد خان قال لبعض من معه : ما قام الشيخ لي. فقال له:
لعله شاهد فيك من الزهو بسبب هذا الفتح الذي لم يتيسر مثله للسلاطين
العظام، فأراد بذلك أن يدفع عنك بعض الزهو).
حكم القاضي بقطع يد السلطان محمد الفاتح
أمر السلطان (محمد الفاتح) ببناء أحد الجوامع في مدينة (اسطنبول)، وكلف أحد
المعمارين الروم واسمه (إبسلانتي) بالإشراف على بناء هذا الجامع، إذ كان
هذا الرومي معمارياً بارعاً. وكان من بين أوامر السلطان: أن تكون أعمدة هذا
الجامع من المرمر، وأن تكون هذه الأعمدة مرتفعة ليبدو الجامع فخماً، وحدد
هذا الارتفاع لهذا المعماري.
ولكن هذا المعماري الرومي – لسبب من الأسباب – أمر بقص هذه الأعمدة ،
وتقصير طولها دون أن يخبر السلطان ، أو يستشيره في ذلك ، وعندما سمع
السلطان (محمد الفاتح) بذلك ، استشاط غضباً ، إذ أن هذه الأعمدة التي جلبت
من مكان بعيد ، لم تعد ذات فائدة في نظره ، وفي ثورة غضبه هذا ، أمر بقطع
يد هذا المعماري. ومع أنه ندم على ذلك إلا أنه كان ندماً بعد فوات الأوان.
ولم يسكت المعماري عن الظلم الذي لحقه ، بل راجع قاضي اسطنبول الشيخ ( صاري
خضر جلبي) الذي كان صيت عدالته قد ذاع وانتشر في جميع أنحاء الإمبراطورية ،
واشتكى إليه ما لحقه من ظلم من قبل السلطان (محمد الفاتح).
ولم يتردد القاضي في قبول هذه الشكوى ، بل أرسل من فوره رسولاً إلى السلطان
يستدعيه للمثول أمامه في المحكمة ، لوجود شكوى ضده من أحد الرعايا.
ولم يتردد السلطان كذلك في قبول دعوة القاضي ، فالحق والعدل يجب أن يكون
فوق كل سلطان.
وفي اليوم المحدد حضر السلطان إلى المحكمة ، وتوجه للجلوس على المقعد قال
له القاضي : لا يجوز لك الجلوس يا سيدي … بل عليك الوقوف بجانب خصمك.
وقف السلطان (محمد الفاتح) بجانب خصمه الرومي، الذي شرح مظلمته للقاضي،
وعندما جاء دور السلطان في الكلام، أيد ما قاله الرومي. وبعد انتهاء كلامه
وقف ينتظر حكم القاضي، الذي فكر برهة ثم توجه إليه قائلاًَ: حسب الأوامر
الشرعية ، يجب قطع يدك أيها السلطان قصاصاً لك !!
ذهل المعماري الرومي ، وارتجف دهشة من هذا الحكم الذي نطق به القاضي ،
والذي ما كان يدور بخلده ، أو بخياله لا من قريب ولا من بعيد ، فقد كان
أقصى ما يتوقعه أن يحكم له القاضي بتعويض مالي. أما أن يحكم له القاضي بقطع
يد السلطان (محمد الفاتح) فاتح (القسطنطينية) الذي كانت دول أوروبا كلها
ترتجف منه رعباً،
فكان أمراً وراء الخيال … وبصوت ذاهل ، وبعبارات متعثرة قال الرومي للقاضي ،
بأنه يتنازل عن دعواه ، وأن ما يرجوه منه هو الحكم له بتعويض مالي فقط ،
لأن قطع يد السلطان لن يفيده شيئاً ، فحكم له القاضي بعشر قطع نقدية ، لكل
يوم طوال حياته ، تعويضاً له عن الضرر البالغ الذي لحق به.
ولكن السلطان (محمد الفاتح) قرر أن يعطيه عشرين قطعة نقدية ، كل يوم
تعبيراً عن فرحه لخلاصه من حكم القصاص ، وتعبيراً عن ندمه كذلك.
السلطان الذي رفضت شهادته
نحن الآن في مدينة (بورصة) في عهد السلطان العثماني (بايزيد) ,الملقب بـ
(الصاعقة) … الفاتح الكبير … فاتح بلاد (البلغار) و (البوسنة) و (سلانيك) و
(ألبانيا) … السلطان الذي سجل انتصاراً ساحقاً على الجيوش الصليبية ، التي
دعا إلى حشدها البابا (بونيغا جيوش الرابع) ، لطرد المسلمين من أوروبا ،
والتي اشتركت فيها خمس عشرة دولة أوروبية كانت (انجلترا) و (فرنسا) و
(المجر) من بينها ، وذلك في المعركة التاريخية المشهورة ، والدامية … معركة
(نيغبولي) سنة 1396م.
هذا السلطان الفاتح اقتضى حضوره للإدلاء بشهادة في أمر من الأمور أمام
القاضي والعالم المعروف (شمس الدين فناري). دخل السلطان المحكمة … ووقف
أمام القاضي ، وقد عقد يديه أمامه كأي شاهد اعتيادي.
رفع القاضي بصره إلى السلطان ، وأخذ يتطلع إليه بنظرات محتدة ، قبل أن يقول
له : (إن شهادتك لا يمكن قبولها ، ذلك لأنك لا تؤدي صلواتك جماعة ، والشخص
الذي لا يؤدي صلاته جماعة ، دون عذر شرعي يمكن أن يكذب في شهادته).
نزلت كلمات القاضي نزول الصاعقة على رؤوس الحاضرين في المحكمة …
كان هذا اتهاماً كبيراً ، بل إهانة كبيرة للسلطان (بايزيد) ، تسمر الحاضرون
في أماكنهم ، وقد أمسكوا بأنفاسهم ينتظرون أن يطير رأس القاضي بإشارة
واحدة من السلطان .. لكن السلطان لم يقل شيئاً ، بل استدار وخرج من المحكمة
بكل هدوء.
أصدر السلطان في اليوم نفسه أمراً ببناء جامع ملاصق لقصره ، وعندما تم
تشييد الجامع ، بدأ السلطان يؤدي صلواته في جماعة. هذا ما سجله المؤرخ
التركي (عثمان نزار) في كتابه : (حديقة السلاطين) المؤلف قبل مئات السنين..
عندما كان المسلمون يملكون أمثال هؤلاء العلماء ، ملكوا أمثال هؤلاء
السلاطين.
ملكنا هذه الدنيا قرونا *** وأخضعها جُدودٌ خالدونا.
وسطّرنا صحائفَ من ضياءٍ *** فما نسيَ الزمانُ ولا نسينا.
حملناها سيوفًا لامعات *** غداةَ الروعِ تأبى أنْ تلينا.
إذا خرجتْ من الأغمادِ يومًا *** رأيت الهولَ والفتْحَ المبينا.
وكنَّا حينَ يأخذنا وليٌّ *** بطغيانٍ ندوسُ له الجبينا.
تفيض قلوبُنا بالهدي بأسًا *** فما نغضي عن الظلمِ الجفونا.
وما فتئ الزمانُ يدورُ حتى *** مضى بالمجدِ قومٌ آخرونا.
وأصبحَ لا يرى في الركب قومي *** وقد عاشوا أئمته سنينا.
وآلمني وآلَمَ كلّ حُرٍّ*** سؤالُ الدهرِ أين المسلمونا.
ترى هل يرجع الماضي فإني ***أذوب لذلك الماضي حنينا؟.
بنينا حقبةً في الأرض ملكًا *** يُدعِّمه شبابٌ طامحونا.
شبابٌ ذلّلوا سبلَ المعالي *** وما عرفوا سوى الإسلام دينا.
تعهَّدهم فأنبتهم نباتاً *** كريمًا طابَ في الدنيا غصونا.
إذا شهدوا الوغى كانوا كماةً *** يدكّونَ المعاقلَ والحصونا.
وإن جنَّ المساءُ فلا تراهم *** من الإشفاق إلا ساجدينا.
شباب لم تحطّمه الليالي *** ولم يُسلِم إلى الخصمِ العرينا.
وما عرفوا الأغاني مائعاتٍ *** ولكن العلا صيغتْ لحونا.
فما عرف الخلاعةَ في بناتٍ *** ولا عرف التخنّث في بنينا.
*
ولم يتشدقوا بقشورِ علْمٍ *** ولم يتقلّبوا في الملحدينا.
ولم يتبجّحوا في كل أمرٍ *** خطير كي يقالَ مثقفونا.
كذلك أخرج الإسلام قومي *** شبابًا مخلصًا حرًّا أمينا.
وعلمه الكرامة كيف تبنى *** فيأبى أن يُقيَّد أو يهونا.
دعوني من أمانٍ كاذباتٍ *** فلم أجد المنى إلا ظنونا.
وهاتوا لي من الإيمانِ نورًا *** وقوّوا بين جنبيَّ اليقينا.
أمدُّ يدي فأنتزع الرواسي *** وأبني المجد مؤتلفًا مكينا.
[/b]