هل تفارق الملائكة الكاتبين العبد في أي حال ؟
[right]السؤال: متى يتجنب الكرام الكاتبين العبد ؟
الحمد لله
أولا :
اتفق العلماء على أن أعمال العباد محصاةٌ عليهم ، سواء عملوها في الأماكن الكريمة ، أم في الأماكن المهينة كالخلاء ، وسواء عملوها في أحوال الطاعات أم في أحوال المعاصي والآثام ، فكل ما عمله العبد في حياته ، سوف يلقاه يوم القيامة مثبتا في كتاب أعماله ، من صغير أو كبير ، من جليل أو حقير . قال الله تعالى : ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) الكهف /49 .
ثانيا :
اختلف العلماء فيما إذا كانت الملائكة الموكلة بتسجيل الأعمال قد تفارق العبد في بعض الأماكن والأحوال ، أم لا ، وذلك على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أن الملائكة الموكلة بكتابة الأعمال لا تفارق العبد في أي حال من الأحوال .
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" هذان الاثنان – يعني الملكين - هل هما دائماً مع الإنسان ؟ نعم لقوله : ( إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) ق/18 وقيل : إنهما يفارقانه إذا دخل الخلاء ، وإذا كان عند الجماع ، فإن صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعلى العين والرأس ، وإن لم يصح فالأصل العموم ( إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) ق/18 " انتهى.
" شرح العقيدة السفارينية " (3) .
القول الثاني : أن الملائكة تفارق العبد في مواضع : في الخلاء ، وعند الجماع ، وأضاف بعضهم عند الاغتسال .
يقول ابن حجر الهيتمي رحمه الله :
" الحفظة لا يفارقوننا ، إلا عند الخلاء والجماع والغسل ، كما في حديث " انتهى.
" الفتاوى الحديثية " (ص/47)
ويقول السفاريني رحمه الله :
" لا يفارقان العبد بحال ، وقيل : بل عند الخلاء ، وقال الحسن : إن الملائكة يجتنبون الإنسان على حالين : عند غائطه ، وعند جماعه ، ومفارقتهما للمكلف حينئذ لا تمنع من كتبهما ما يصدر منه في تلك الحال ، كالاعتقاد القلبي ، يجعل الله لهما أمارة على ذلك " انتهى.
" لوامع الأنوار البهية " (1/448)
واستدلوا على ذلك بأدلة عدة :
الدليل الأول : عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
( إِيَّاكُمْ وَالتَّعَرِّيَ ، فَإِنَّ مَعَكُمْ مَنْ لَا يُفَارِقُكُمْ إِلَّا عِنْدَ الْغَائِطِ ، وَحِينَ يُفْضِي الرَّجُلُ إِلَى أَهْلِهِ ، فَاسْتَحْيُوهُمْ وَأَكْرِمُوهُمْ )
رواه الترمذي (رقم/2800)
لكن هذا الحديث ضعيف ، قال الترمذي بعد إخراجه له : "هذا حديث غريب " انتهى. وضعفه الألباني في " السلسلة الضعيفة " (رقم/2300)
قال بدر الدين العيني رحمه الله :
" فإن قيل : قد رُوِيَ عنه عليه السلام أن الكرام الكاتبين لا يُفارقان العَبد إلا عند الخلاء والجماع.
قلت : هذا حديث ضعيف لا يحتج به " انتهى.
" شرح سنن أبي داود " (2/397)
الدليل الثاني : روى عبد الرزاق في " المصنف " (1/285) عن ابن جريج ، عن صاحب له ، عن مجاهد قال :
( لما كان النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية - وعليه ثوب مستور عليه - هبت الريح ، فكشفت الثوب عنه ، فإذا هو برجل يغتسل عريانا بالبراز ، فتغيظ النبي صلى الله عليه وسلم وقال : يا أيها الناس ! اتقوا الله واستحيوا من الكرام ، فإن الملائكة لا تفارقكم إلا عند إحدى ثلاث ، إذا كان الرجل يجامع امرأته ، وإذا كان في الخلاء ، قال : ونسيت الثالثة .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : فإذا اغتسل أحدكم فليتوار بالاغتسال إلى جدار ، أو إلى جنب بعير ، أو يستر عليه أخوه )
لكن هذا الحديث مرسل ، وفي سنده مبهم . فلا يصح الاستدلال به ، لضعفه .
الدليل الثالث : عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال :
( إن الله ينهاكم عن التعري ، فاستحيوا من الملائكة الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند الغائط والجنابة والغسل ، فإذا اغتسل أحدكم بالعراء فليستتر بثوبه أو بحائط )
قال ابن تيمية رحمه الله :
" رواه ابراهيم الحربي ، ورواه ابن بطة من حديث ابن عمر ، وقد صح ذلك من مراسيل مجاهد " انتهى.
" شرح العمدة " (1/401)
لكن لم يتم الوقوف على إسناد الحديث إلى ابن عباس ، والمعروف أنه من حديث ابن عمر كما سبق تخريجه عند الترمذي ، وبيان ضعفه .
القول الثالث : أن الثابت في الكتاب والسنة أن كل عبد موكل به ملكان يراقبان حركاته وسكناته ، ويكتبان أفعاله ، ويحصيان عليه كل ما يصدر منه ، سواء كان عمل خير أو عمل معصية ، سواء كان في محل كريم أو مكان مهين .
ولكن لم يرد في الكتاب ولا في السنة تفسير لكيفية هذا الإحصاء ، وهل يستلزم دخول الملائكة مع العبد كل مكان يدخل إليه ، وبقاءهم معه في تفاصيل كل عمل يعمله ، أو أن الله خلق فيهما من القدرة ما تمكنهما من معرفة الأعمال وكتابتها من غير حاجة إلى مصاحبة العبد في كل مكان يدخل إليه .
والذي ينبغي في ذلك ألا يتكلم المرء في مثل تلك الأمور الغيبية ، من غير دليل من كتاب الله ، أو سنة رسوله ، وإسناد العلم في ذلك إلى الله عز وجل ، والإيمان بأن كل ما يصدر من العبد محصي عليه ، وهو كاف للعبد في هذا الباب ، وهو الأمر الذي ينفعه ويعنيه ؛ يقول الله عز وجل : ( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) ق/18. وقال سبحانه وتعالى : ( هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) الجاثية/29.
قال السيوطي رحمه الله :
" وأما السؤال عن دخول الكاتبين الخلاء ، فجوابه : أنَّا لا نعلم ، ولا يقدح عدم علمنا بذلك في ديننا ، وجملة القول فيه : أنهما إن كانا مأمورين بالدخول دخلا ، وإن أكرمهما الله عن ذلك وأطلعهما على ما يكون من الداخل ، مما سبيلهما أن يكتبا ، فهما على ما يؤمران به " انتهى.
" الحبائك في أخبار الملائك " (ص/90) .
ولعل القول الثالث هو القول الأقرب ، والأوفق لجانب الأدب في مثل ذلك ؛ لما فيه من الوقوف عند النصوص ، وعدم تجاوزها من غير دليل قوي ولا برهان صحيح . والله أعلم .
والله أعلم .