القاضي رئيس محكمة نور الاسلام
عدد المساهمات : 3310 رصيد نقاط : 22910 رصيد حسابك فى بنك نور : 309 تاريخ التسجيل : 06/10/2009
| موضوع: النقود الإسلامية ، كما ينبغي أن تكون الخميس مايو 20, 2010 6:34 pm | |
| --------------------------------------------------------------------------------
المستخلص :
يتناول البحث أولاً الخصائص المعيارية التي ينبغي أن تتوافر في النقود في اقتصاد إسلامي ، حسبما تدل عليه نصوص الشريعة واجتهادات بعض كبار الفقهاء ؛ ويستنتج أن تحقيق الأحكام والمقاصد الشرعية المتعلقة بالنقود لا يتطلب التشبث بصورها المادية التي كانت سائدة في عهد التشريع ( أي الذهب والفضة ) ، لكنه يتطلب بالتأكيد استقرار قيمة النقود الذي هو شرط جوهري لكفاءتها في أداء وظائفها .
ين يديه
في بحث سابق بعنوان (النقود الإسلامية في عصر التشريع) ، عرضت تحقيقًا تاريخيًّا عن النقود التي كانت سائدة في فجر الإسلام ؛ من حيث أشكالها وأوزانها والأحكام التي عرفت بهـا، والأحكام التي وردت فيها ، مع أبرز آثارها الاقتصادية .
وفي بحث لاحق بعنوان (النقود الإسلامية في عصور الاجتهاد) ، تعرضت للنقود المتخذة من غير الذهب والفضة ، والتي عرفت بـ (النقود الاصطلاحية) . وقد سعيت إلى إثبات جريان الأحكام الشرعية فيها ، تمامًا كما تجري في (النقود الخلقية) . ثم نظرت في بدائل لترجمة المقادير الشرعية بوحدات النقد الاصطلاحي ، وذلك بعد أن ابتعد سعر صرف المعدنين: الذهب والفضة، عن السعر مناط التعديل في الأنصبة المختلفة .
وفي كل ما تقدم تعرضت للواقع النقدي كأمر قائم وشيء معطى . أما هذا البحث فإنه يهدف إلى التحقيق في الخصائص المعيارية التي ينبغي أن يكون عليها النقد في اقتصاد إسلامي ، من خلال سعيه إلى الكشف عن جوهر النقدية، أو حقيقة الثمنية، وفصلها عما تلبّس بها تاريخيًّا مـن أشكال اعتبرها البعض جزءا حيويا من البناء العضوي لنظام نقدي إسلامي . كما يهدف أيضًا إلى الكشف عن أشراط الكفاءة التي تلزم لنقودٍ إسلاميةٍ تحقق مقاصد الشرع الحنيف .
فرضية البحث
إن كفاءة النظام النقدي وجريان الأحكام الشرعية في النقود وتجلّي آثارها المرغوبة في الحياة الاقتصادية ليس رهينًا بالنقود المعدنية (الخلقية) ، أو أي شكل تاريخي آخر ، إنما هو رهين بسلطةٍ نقدية إسلامية أمينة وكفية (efficient) ، تنفذ أحكام الله تعالى في النقود ، وتعمل على تحقيق التناسب بين المتداول النقدي والعرض السلعي ، بما يضمن استقرار قيمة الوحدة النقدية باستمرار. وعندئذ فقط ، يتوافر المناخ الملائم حقوقيًّا واقتصاديًّا ، ليس للتعامل المرضي فحسب ، وإنما لسائر وجوه الفعالية الاقتصادية .
منهجيته
وفي سعينا لإثبات فرضية البحث المتقدمة، تجاوزت الاستقراء التاريخي والتقرير الفقهي، إلى التحقيق المنطقي القائم على الاستدلال الاستنتاجي ، لاستجلاء العلل والمقاصد الشرعية ذات العلاقة . وقد عضّدت ذلك بالنظرة التحليلية للآثار الحقوقية والاقتصادية الواقعة والاحتمالية . وأكرر هنا ما قلته في الأبحاث السابقة ، بأن ما أكتبه هو رأي وليس فُتيا ، لكنه رأي في واحدة من المسائل التي تهم الجميع على صعد مختلفة . لذا ، فالأمانة الشرعية تقتضي من أهل الاختصاص النصح وبيان الرأي سيما المخالف منه وأنا لهم شاكر .
كما آمل أن لا تثير الآراء في هذا البحث حفيظة القارئ الغيور لمخالفتها ما اعتاد معاملته على أنه مسلّمات شرعية في التراث الفقهي ، وهي في الحقيقة قناعات ومفاهيم نسبية ليس غير .
النقود ووظائفها
لا شك أن النقود وسيط اجتماعي قرين بالاقتصاد التبادلي ، فهي أداة اعتمدها الاجتماع الإنساني للخروج عن نظام المقايضة الذي كان يكبل عمليات المبادلة بقيوده المعروفة . وهذه الأداة شأنها شأن الأدوات الأخرى ، تعرف بوظائفها التي تؤديها، والتي من أجلها برزت للوجود؛ فليس لها طبيعة محددة ولا جوهر قائم بذاته . وفي هذا الصدد تتعاضد آراء الفقهاء التي تؤكد هذه النظرة الأداتية تجاه النقود . يقول ابن رشد : “المقصود منهما (الذهب والفضة) أولاً المعاملة لا الانتفاع” بخلاف العروض التي يقصد منها الانتفاع أولاً لا المعاملة . ويقول ابن عابدين : “واعلم أن كلاً من النقدين (الذهب والفضة) ثمن أبدًا” . و “الثمن غير مقصود بل وسيلة إلى المقصود ، إذ الانتفاع بالأعيان (السلع) لا بالأثمان ... فبهذا صار الثمن بمنزلة آلات الصناع” .
ويقول الإمام الغزالي عن الدنانير والدراهم : “لا غرض في أعيانهما” . ويؤكد شيخ الإسلام ابن تيمية هذا المفهوم الأداتي بقوله : “ ... هي وسيلة إلى التعامل بها ، ولهذا كانت أثمانًا (نقودًا) ... والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيف كانت” . أعتقد أن لا حاجة مع وضوح هذه النقول إلى التعليق ، فالنقود كما رآها هؤلاء الأعلام -رحمهم الله تعالى- وسيلة وحسب ، وسيلة لها وظائف محددة تؤديها وليس لها قداسة مبهمة أو صنمية مزعومة .
أما بصدد تفصيل وظائف النقود فيقدم لها الإمام الغزالي (450-505هـ) إيضاحًا وافيًا فيقول : “... حتى تقدر بها الأموال ، فيقال هذا الجمل يساوي مائة دينار وهذا القدر من الزعفران يساوي مائة دينار ، فمن حيث إنهما مساويان شيئًا واحدًا إذا (هما) متساويان وإنما أمكن التعديل بالنقدين ...” .
ويقول ابن رشد : “ ... لمّا عَسُر إدراك التساوي في الأشياء المختلفة الذوات ، جُعِل الدينار والدرهم لتقويمها: أعني لتقديرها” . ويعرض (ابن تيمية) لذلك بقوله: “... المقصود من الأثمان (النقود) أن تكون معيارًا للأموال ، يُتوسّل بها إلى معرفة مقادير الأموال” . وإذًا فهي أداة لأغراض التقويم الاجتماعي ، وظيفتها الأساسية الأولى هي قياس القيم . ولا شك أن غياب المعادل العام لموضوعات التبادل هو أبرز الدوافع التي جعلت المجتمعات البشرية تتخلى عن نظام المقايضة الغابر .
أما الوظيفة الرئيسة الثانية للنقود فتتمثل في تيسير التبادل من خلال توسطها في عمليات المبادلة وفي هذا يقول (الغزالي):
“... ولحكمة أخرى هي التوسّل بهما (بالنقدين) إلى سائر الأشياء ... فمن ملكهما فإنه كمن ملك كل شيء ، لا كمن ملك ثوبًا ، فإنه لم يملك إلا الثوب . فلو احتاج إلى طعام ربما لم يرغب صاحب الطعام في الثوب لأنه (لأن) غرضه في دابة مثلاً . فاحتيج إلى شيء في صورته كأنه ليس شيء وهو في معناه كأنه كل الأشياء ... وهو وسيلة إلى كل غرض” .
ترى ، أيجد نظام المقايضة نعيًا أبلغ من هذا النعي؟! فتوافق الرغبات زمنًا وموضوعًا لدى كل المشاركين مسألة صعبة ، وهي تختزل فرص قيام المبادلة كثيرًا . لذا عَظُمت الحاجة في شيء ممثل لكل القيم ، ويسهل تَشكُّله بأي منها عند الحاجة . ومثل هذا الشيء لا شك سيقبل به الجميع ، وعندئذ ستتحرر عمليات التبادل من قيد البحث عن الطرف الآخر الراغب في المبادلة ، الراضي آنيًّا بما يعرضه الطرف الأول . وهذا ولا شك يوسع آفاق التبادل وييسره .
هكذا إذًا، فالنقود وسيط للمبادلة ومقياس لموضوعاتها . وهاتان هما الوظيفتان الرئيستان لها، يزاد عليهما وظيفتان أخريان أولهما خزن القيمة ، فالإنسان قد ينتج أو يملك قيمًا تفيض عن حاجته الآنية ، لذا فهو يفكر في ادخارها لحين احتياجه إليها ، أو لحين احتياجه إلى ما يمكنها إحرازه من السلع الأخرى . ولكن ليست كل القيم المنتجة تقبل الخزن بسهولة وبدون تكاليف ، ولأجل ذلك ، فلا بد أن يفكر الإنسان بشيء يؤمِّن له ذلك المطلب ، ولكن ليس كل ما يستجيب للخزن يلبي رغبة مالكه عند الحاجة إنما هناك شيء في “صورته كأنه ليس بشيء ... وهو في معناه كأنه كل الأشياء ... وهو وسيلة إلى كل غرض ...” وهو ما عرفناه بالنقود ، فالنقود ؛ ليست مستأمنة على كل القيم من التلف فحسب ، إنما هي قادرة على التشكّل بأي صورة يرغبها من يحوزها . إن هذه الخاصية : أي القابلية على التشكّل بموضوعات التبادل المختلفة هي سر السيولة التامة Perfect Liquidity التي تتفوق بها النقود على كل الأصول الحقيقية والمالية الأخرى ، وهي التي أوفاها الإمام الغزالي إيضاحًا وتوصيفًا .
أما الوظيفة الأخرى للنقود فهي تسديد الديون ، أي كونها وسيلة للدفع الآجل . وهذه الوظيفة إنما تنهض على أساس قبول الناس بالنقود كعوض لما لهم في ذمم الآخرين من حقوق ، ولو كان هذا العوض مؤجلاً . إن قبول الناس بالنقود لهذا الغرض إنما يقوم على اعتبار واختبار قدرة النقود في حفظ حقوقهم (خزن القيم) وقابليتها للتحول إلى أي شيء يرغبونه وبلا عناء (السيولة التامة) .
ولأن الشريعة الإسلامية تصون (المال المتقوِّم) لصاحبه ، لذا فإنها توجب تعويض المال المتلف بمثله على المتسبب . ولكن قد لا يجد هذا مالاً مماثلاً يعوض المال التالف ، لذا يقرر الشرع التعويض بالقيمة ، أي بقيمته من النقود . ولأجل ذلك قيل عنها أنها: “أثمان المبيعات وقيم المتلفات” . وهذا إنما كان لما في النقود من قابلية على تمكين حائزها من الطيبات التي تعوضه ما فاته بتلف ماله .
هذه بإيجاز هي الوظائف الرئيسة للنقود ، وبقدر ما تكون كفية في إنجازها فإنها تحرز ذاتها وتستمد ماهيتها في التنظيم الاقتصادي-الاجتماعي .
أشكال النقود : النظام المعدني والكفاءة
لكن ما هي يا ترى صورة النقد الذي يؤدي تلك الوظائف ويضع عن المجتمع إصر المقايضة وأغلالها؟
يقول ابن خلدون : “الذهب والفضة قيمة لكل مُتموَّل” ، ويقول الغزالي : “خلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين متوسطين بين سائر الأموال” . ويقرر ابن رشد عن الإمامين مالك والشافعي تخصيصهما (الذهب والفضة) بأحكام معينة “كونها رؤوسًا للأثمان وقيمًا للمتلفات” . أما المقريزي فيغالي جازمًا: “ ... إن النقود التي تكون أثمانًا للمبيعات وقيمًا للأعمال ، إنما هي الذهب والفضة فقط ، لا يعلم في خبر صحيح ولا سقيم عن أمة من الأمم ولا طائفة من طوائف البشر أنهم اتخذوا أبدًا في قديم الزمان ولا حديثه نقدًا غيرهما . حتى قيل إن أول من ضرب الدينار هو آدم عليه الصلاة والسلام ، وقال لا تصلح المعيشة إلا بهما ، رواه الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق” !!
وما وكّده المقريزي أنكره ابن حزم مُغلِّظًا: “... ولا ندري من أين وقع الاقتصار بالتثمين على الذهب والفضة ، ولا نص في ذلك ، ولا قول أحد من أهل الإسلام وهذا خطأ في غاية الفحش”!! .
يتضح مما تقدم ، ترشيحًا للذهب والفضة لوظيفة النقدية ، بل وأكثر من الترشيح والترجيح، إذ يصل الأمر إلى التقرير الجازم ، لدى البعض ، بأن الذهب والفضة هما النقد خلقةً ، وأن الثمنية (النقدية) هي علة قاصرة عليهما ، ولا تتعداهما إلى سواهما . وهو ما ذهب إليه المقريزي من المؤرخين وجمهور الشافعية من الفقهاء . يقول النووي : “... الذهب والفضة *** الأثمان غالبًا” ، ويقول الشيخ زكريا : “إنما يحرم الربا ، يقصد ربا الفضل ، في نقد أي ذهب وفضة ... بخلاف العروض كفلوس وإن راجت” .
وتجمع المدارس الفقهية عمومًا على أن “الذهب والفضة أثمان بالخلقة” وإن كان بين هذه المدارس في تعدية الثمنية إلى غيرهما خلاف وتفصيل كما لاحظنا عند بحثنا للنقود في عصور الاجتهاد .
والآن لنستكمل استشراف الشكل الكفي والمرضي من منظور الفقهاء والمؤرخين ، فالذهب والفضة بأي شكل وجدا فهما “نقد خلقي” إلا أن أشكالهما ليست بنفس المستوى من الكفاءة لإنجاز مهام المبادلة . فحينما توجد النقود بشكل مسكوكات Coins معلومة الوزن والنقاء أفضل من أن تكون تِبرًا يضطر المتعاملون إلى الاستعلام عن وزنه ونقاوته . يقول ابن خلدون : “بها ، أي بالسكّة ، يتميز الخالص من المغشوش بين الناس في النقود عند المعاملات ويتقون سلامتها من الغش بختم السلطان عليها” ويقول الماوردي : “إذا خلص العين (الذهب) والورق (الفضة) من غش ، كان هو المعتبر من النقود المستحقة ، والمطبوع منها بالسكة السلطانية الموثوق بسلامة طبعها المأمون تبديلها وتلبيسها هي المستحقة ، دون نقار الفضة وسبائك الذهب لأنه لا يوثق بهما إلا بالسبك والتصفية والمطبوع موثوق به ، لذلك كان هو الثابت في الذمم فيما يطلق من أثمان المبيعات وقيم المتلفات ...” .
ولقد لاحظنا عند بحثنا لنقود عصر التشريع ، أن ظهور دار السكة ، كان شرطًا مؤسسيًّا لازمًا لحركة الإصلاح النقدي الكبرى ، على عهد عبد الملك بن مروان . وكان واحدًا من لوازم الاستقلال الاقتصادي ، وشرطًا لإنفاذ السياسة الشرعية للدولة الإسلامية ؛ إذ تمت (أسلمة) النظام النقدي تمامًا . ومنذ ذلك العهد أصبح الحديث عن النقد ، وحق إصداره محصورًا بالدولة ، كأحد أبرز وظائفها الاقتصادية . لقد أصّلت وظيفة الدولة هذه جملة من الأحكام ، زيادة على المداخلة التاريخية المعروفة ، ومن هذه الأحكام : النهي عن كسر النقود فقد “نهى النبي e أن تكسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس” .
وجاء في القرآن الكريم ، تعريضًا بقوم شعيب عليه السلام لأنهم كانوا يحذفون الدراهم أي يقطعونها من أطرافها وهذا منقص لوزنها . وقد اعتقد هؤلاء أن ذلك باختيارهم ، ولا قوامة للمجتمع ولا للمصلحين فيه على واحدة من أبرز مؤسساته وأكثرها حيوية وخطورة: { قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد} . قال الطبري في تفسيرها : “نهاهم عن قطع الدنانير والدراهم فقالوا مخالفين إنما هي أموالنا نفعل فيها ما نشاء . إن شئنا قطعناها وإن شئنا حرقناها وإن شئنا طرحناها” .
وحكى الشوكاني عن ابن سريج : إن ناسًا “كانوا يقرضون أطراف الدراهم والدنانير بالمقراض ... ويجمعون من تلك القراضة شيئًا كثيرًا بالسبك كما هو معهود بالمملكة الشامية وغيرها ، وهذه هي الفعلة التي نهى الله عنها قوم شعيب بقوله : {ولا تبخسوا الناس أشياءهم} -فقالوا- أتنهانا أن نفعل في أموالنا يعني - الدراهم والدنانير -ما نشاء- من القرض ولم ينتهوا عن ذلك فأخذتهم الصيحة” .
وإذا كان المعتبر ، من وجهة نظر البعض ، في حصر حق سك النقد بالدولة هو سلامة النقد من الغش لذا يقرر الفقهاء كراهة ضرب الدراهم المغشوشة حتى من قبل ولي الأمر للحديث الصحيح: “ ... من غشنا فليس منا” ، وقد تحامل الإمام الحسن رحمه الله تعالى على أولياء الأمور لِما رأى من غش الدراهم فقال: “كان الناس وهم أهل كفر قد عرفوا موضع هذا الدرهم من الناس فجوّدوه وأخلصوه، فلما صار إليكم غششتموه وأفسدتموه . ولقد كان عمر بن الخطاب قال : هممت أن أجعل الدراهم من جلود الإبل فقيل له : إذًا لا بعير ، فأمسك” .
وأورد الفقهاء خلافًا في جواز التعامل (أو إمساك) النقد المغشوش ربما أمكن تقييده بمجهولية قدر الغش وصفته ومدى جريان العرف به . وفي هذا السياق أيضًا هاجم ابن تيمية أهل الكيمياء ، وشدد في مسؤولية الدولة عن متابعتهم وملاحقتهم لأنهم يستطيعون غش النقود بوسائل لا يستطيعها غيرهم. بل وأكد هو وغيره رقابة الهيئة الاجتماعية على السلطة التنفيذية؛ إذ أشار بأن ليس للإمام أن يبدل النقود الاصطلاحية الرائجة بين الناس ، لأن ذلك مفضٍ إلى أكل أموالهم بالباطل ، مثلما لا يكون لأحد من الرعية إصدارها افتئاتًا على السلطان .
والحق أن مسؤولية الدولة عن إصدار النقد وإدارته ، حتى وإن لم يسنده نص توقيفي ، فهو من باب المصالح المرسلة التي لا يُستغنى فيها عن الدولة أبدًا . قال ابن خلدون عن إصدار النقد: “هي وظيفة ضرورية للملك” . قال عنها النووي في (المجموع) إنها “ من شأن الإمام”. وقال أحمد في رواية جعفر بن محمد: “لا يصلح ضرب الدراهم إلا في دار الضرب بإذن السلطان ، لأن الناس إنْ رُخِّص لهم ركبوا العظائم” .
وفي هذا السياق تناقل المؤرخون الإجراءات التي اعتمدها ولاة الأمور للحفاظ على سلامة النقد صيانة لهذه الوظيفة .
فإذا كان الحال كذلك مع النقود المعدنية ذات القيمة السلعية والنقدية معًا فكيف يكون مع النقود الورقية ذات القيمة الرمزية فقط؟ وهل أن الذي يحذِف من أطراف الدراهم والدنانير المعدنية أشد خطرًا من الذي يحذِف قيمة الدراهم والدنانير الورقية؟!
بل وهل هناك عظيمةٌ أمرُّ وأدهى من “تأهيل” المصارف التجارية فقهيًّا لذلك من خلال إسباغ المشروعية على توليدها لنقود الودائع!! سنرى تفصيل الأمر بعد قليل .
كفاءة النقود ؛ الطبيعة النقدية : كيف تحرز ... .؟
تحقيق منطقي
لما كانت النقود أداة تراد لوظائفها وليس لشيء آخر ، فإن كفاءتها هي التي تحرز ماهيتها النقدية (الثمنية) ، وليس شكلها المادي أو أي اعتبار آخر كما سنرى .
إن كفاءة النقود تعني حسن أدائها لوظائفها ، فهذا هو محك الاختبار الصحيح . ولتوضيح ذلك نقول أن الوظيفة الأساسية الأولى للنقود إنما تمثّلت في قياس القيمة . وبغض النظر عن أي مضمون فكري تعالجه نظرية القيمة في تحديد جوهرها ، أقول: بغض النظر عن هذا ، فإن القيمة تجد تعبيرًا نقديًّا عنها في السوق . فبالنقود تؤشَّر أقيام السلع موضوع التبادل من خلال ما يعرف بالأسعار .
والأسعار بهذا المعنى هي الحالة الخاصة الأوضح ظهورًا للأسعار النسبية بمعناها الأوسع “كشروط تُعرَض بها البدائل” .
وإذًا فالنقود هي المسطرة الميسرة التي بواسطتها يمكن قياس تقدير evaluation أعضاء الهيئة الاجتماعية للسلع المتباينة والمتنوعة . فهي بلغة الإمام الغزالي الوسيلة التي تحدد بها المراتب ، مراتب السلع موضوع التبادل . وهي بلغة شيخ الإسلام ابن تيمية المعيار الذي يتوسل به لمعرفة مقادير الأموال (العروض) .
إن المطلوب منطقيًّا في كل مقياس ، لكي يحرز طبيعته وجوهره ، أن يكون منضبطًا لا يزيد ولا ينقص ، فالمتر مثلاً وحدة مجردة لقياس الأطوال لا يشترط فيها طبيعة مادية محددة إنما يشترط فيها كونها (مترًا) في القياس لا أكثر ولا أقل ، ويشترط لها أن تستقر على ذلك أبدًا . ومثل ذلك يقال عن وحدات الوزن . فهكذا إذًا وحدة النقد ينبغي أن تكون ثابتة القيمة حتى تستطيع أن تقيس القيم مثلما يشترط للمتر أن يكون ثابت الطول . وطبعًا سيكون من العبث أن نقيس الأطوال بمتر يتقاصر حينًا ويتطاول آخر والعبث هذا يتحقق تمامًا حينما نقيس القيم بوحدات نقد متغيرة القيمة .
وتبدو المشكلة بوضوح حينما تمتد عمليات قياس القيم لآجال مختلفة على شريط الزمن ، وحينئذ لا تعود هناك أي إمكانية منطقية لقبول مثل هذا المقياس ، لأنه إنما يشير إلى مواقع متغيرة للسلع في التقدير الاجتماعي ، كما أنه يُخل بالحقوق أو الالتزامات المتبادلة بين أعضاء الهيئة الاجتماعية ، فيطفف ما بذمة البعض لحساب البعض الآخر . وهذا آية التظالم وأكل أموال الناس بالباطل وهو مناف لمنطق العدل الذي تؤكده الشريعة في سائر المعاملات .
وإذًا فالمقياس ينبغي أن يكون ثابتًا إذا أريد أن يكون مقياسًا صادقًا . وبهذا المعنى تأتي توكيدات ابن القيم بالغة الدلالة في وجوب ثبات قيمة النقد كمطلب شرعي ووضعي مُلحّ يقول رحمه الله تعالى : “... فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات ، والثمن (النقود) هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال ، فيجب أن يكون محددًا مضبوطًا لا يرتفع ولا ينخفض ، إذ لو كان الثمن (النقود) يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن (نقد) نعتبر به المبيعات . وحاجة الناس إلى ثمن (نقد) يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية وعامة ... . وذلك لا يكون إلا بثمن (نقد) تقوَّم به الأشياء ويستمر على حالة واحدة ، ولا يقوَّم هو بغيره ، إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض فتفسد معاملات الناس ويقع الخُلف ، ويشتد الضرر ... ولو جعلت ثمنًا واحدًا لا يزداد ولا ينقص... لصلح أمر الناس ...” .
وقد لاحظ د.عيسى وجوب ثبات قيمة النقد من استقرائه للآثار اللامحمودة لتغير القيمة والتي تمثلت فيما عرضه بالآتي:
1 ـ الإضرار بمصلحة المجتمع .
2 ـ الإخلال بقاعدة الملكية الخاصة المصونة في الشريعة .
3 ـ تركّز الثروة المنافي لمقاصد الشريعة .
4 ـ الإضرار بمصلحة أصحاب الدخول الثابتة والملكيات الصغيرة .
5 ـ التأثير سلبيًّا في سلوك الأفراد .
كما أنه علّق على ثبات قيمة النقد ، صحة عقدي المضاربة والإجارة وتحقق طبيعة النقد كمقياس ، وأشار إلى أن الفقهاء قد استنبطوا أن من الخصائص التي يجب أن تتوافر في النقود ، وجوب ثبات قيمتها ، فهم “ينادون بنظرية ثبات النقود” ، وأحال إلى (د . رفيق المصري) .
والحق أنني لم أقف -رغم ترددي بين الإحالات المرجعية ذات الصلة- على ما يفهم منه استنباط الفقهاء لنظرية ثبات القيمة ومناداتهم بها ، اللهم إلا ما أورده ابن القيم وفيه توصية صريحة بذلك . وعدا عن هذا فالإشارات متواترة بكون النقود معيارًا للقيم . لكنَّ أحدًا من الفقهاء -في حدود علمي- لم يتعرض إلى صحة البيع والتعامل بنقد متغير القيمة خلا أبي حنيفة رحمه الله تعالى الذي اعتبر البيع بنقد يكسد بعد إبرام العقد بيعًا باطلاً . وقد لخص ابن عابدين قوله في رسالته تنبيه الرقود كالآتي: “ ..إذا باع شيئًا بنقد معلوم ثم كسد النقد قبل قبض الثمن، فإنه يفسد البيع ثم (ينظر) إن كان المبيع قائمًا في يد المشتري يجب رده ، وإن كان خرج .. فإنه يجب عليه رد مثله .. وإن كان من ذوات القيم .. فإنه تجب (قيمة) المبيع يوم القبض من نقد كان موجودًا وقت البيع لم يكسد . ولو كان مكان البيع إجارة فإنه تبطل الإجارة ويجب على المستأجر أجر المثل هذا كله قول أبي حنيفة” ، وذلك لبطلان ثمنية ما اصطلحوا عليه من نقد . وعدا عن ذلك فحتى الفقهاء الذين أجازوا النظر في تغير قيمة النقود لم يصدروا -في حدود ما أعلم- عن حكمٍ شرعي بصدد التعامل المستقبلي بنقد مضطرب القيمة ، وإنما اكتفوا بمعالجة آثار هذا الاضطراب . ولأجل ذلك ظل النظر إلى العقود المسماة بالنقود (ولو كانت مضطربة القيمة) مشوبًا بالحذر من قبل جمهور الفقهاء قديمًا ، بل وجمهور المهتمين بهذا الموضوع حديثًا .
ومن الغريب حقًا أن هذا الموضوع ، موضوع صحة التعامل بنقد مضطرب القيمة لم يحظ بجدية تناسب خطورته . لقد قرر الفقهاء عدم جواز البيع بمكيال غير منضبط ، جاء في الموسوعة الفقهية : “أما البيع بمكيال غير منضبط ، بأن كان يتسع ويضيق فلا يجوز . مع استثناء بيع الماء بالقِرَب ، فيجوز استحسانًا لجريان العرف به كما يقول الحنفية” . ومع ذلك لم يشر إلا القليل إلى مكيال القيمة وضرورة انضباطه ؛ بل سنرى في بحث لاحق موقفًا سلبيًّا لبعض المُحْدَثِين حتى تجاه استدراك تغير قيمة النقود .
إن الوظائف الأخرى للنقد وكفاءة إنجازها تقوم على الحقيقة ذاتها: وجوب كون النقد ثابت القيمة . فلكي تكون النقود وسيطًا كفيًّا في التبادل ؛ ينبغي أن لا يقلق من يعطي سلعته ويأخذ النقد ، على قيمة النقد الذي في يده ، ولا يحس ببخس أو صعوبة حينما ينصرف إلى متبادل آخر فيشتري منه السلعة التي يحتاجها . فهذه الثقة بالنقود ، في أنها تحرز الأشياء الأخرى بيسر ودون خسارة ، شرط لحسن أدائها . وتبدو المسألة بوضوح أكبر أيضًا حينما يمتد الزمن وتحصل الفجوة بين وقت البيع وبين وقت الشراء اللاحق .
وهنا لا بد أن ينصرف الحديث إلى وظيفة أخرى للنقود هي وظيفة خزن القيمة . فمما لا شك فيه أن النقود تراد لأنها وسيلة إلى موضوعات التبادل الأخرى ، وأن الفرد إنما يحتفظ بها لاعتقاده بأنها يمكن أن تتشكل ، عندما يريد ، في أي سلعة يرغبها . ولأجل ذلك فهو يدّخر أو يخزن القيم التي يحوزها بشكل نقود . ولكي تكون النقود هذه وعاءًا حفيظًا لِما استودع فيها ، فينبغي أن تكون ثابتة القيمة . فحينما يبيع الفرد شاة ويحتفظ بثمنها إلى وقت لاحق ، فإنه يلزم لهذا الثمن أن يكون قادرًا على شراء مثل هذه الشاة أو ما كان يعادلها في وقت البيع ، وبخلاف ذلك فإنه سيفضل استبقاء شاته إلى أن تحين حاجته إلى سلعة أخرى . ولكن إذا كان صاحب الشاة يمكنه تأجيل بيعها لحين الحاجة فإن صياد السمك أو منتج الطماطم لا يستطيع ذلك بسهولة، وسيلجأ هؤلاء إلى النقود لحفظ قيم منتجاتهم ، لكن تناقص قيمة النقد يعني أن جهود هؤلاء ستتآكل أيضًا حينما يحفظونها في وعاء نقدي ، وهذا خرق فاضح لرسالة النقود ووظائفها .
ولا تتخلف الوظيفة الرابعة للنقود : تسوية الديون ، عن توكيدها لضرورة ثبات قيمة النقد. فلكي يرضى الناس بالنقود كبديل لما لهم في ذمم الآخرين من قروض حسنة أو ديون تعامل أو تعويض متلفات ، ينبغي أن يكون النقد الذي يحصلون عليه آجلاً، كافيًّا لشراء نظير المال المتلف، أو نظير السلعة التي استلف المدين قيمتها . وهذا يعني أنه لا بد من ثبات قيمة وحدة النقد ، وبخلافه سيتنازع الناس ولا بدَّ ، ويتظالمون ولا محيص .
والخلاصة : أننا إذا تجاوزنا المتطلبات الفنية المرغوبة عمومًا في النقود فإننا لا نجد خاصية جوهرية ترتبط بكفاءة أدائها لوظائفها ، سوى ثبات قيمتها أو استقرارها ؛ وذلك يعتمد أساسًا على العلاقة النسبية بين المتداول النقدي والعرض السلعي .
إن هذا المطلب ، أي ثبات قيمة النقود أو استقرارها ، ليس مطلبًا تحسينيًّا فيها ، إنما هو مطلب شرعي أكيد من الناحية الحقوقية والاقتصادية . فالله سبحانه وتعالى أمر بالعدل ، وما من شك أن استقرارية قيمة الوحدة النقدية ، شرط للعدل في المعاملات ، وهذا -وإن لم يرد به نص توقيفي- فهو أمر مدرك عقلاً ، وما لا يتم الواجب (العدل) إلا به فهو واجب . فغياب هذا المطلب في النقود ، يخل بجداول الحقوق أو الالتزامات بين الناس . وقد تقدمت الإشارة إلى عدم مشروعية البيع بالوعاء الذي لا ينضبط ، فكيف نصحح كيل القيم (البيع والتعاقد وتعريف الالتزامات) بصاع القيمة الذي لا ينضبط عبر الزمن !
ومن الناحية الاقتصادية أيضًا
فإن ثبات قيمة النقود من الناحية الاقتصادية الصرفة ، غاية ما يوصي به المنطق السليم ، فاتجاه قيمة النقد نحو الانخفاض يورث التحفظ تجاه عمليات الإقراض والبيع الآجل ، ويقوّض إرادة المتبادلين في عقود السلم. وهي صور للتعامل على جانب كبير من الأهمية في أسواق عالمنا المعاصر؛ وفي هذا تقييد لعمليات التبادل بأفق الزمن الجاري فقط ، وهو ما لا يريده أحد من الاقتصاديين البتة لاعتبارات اقتصادية صرفة ، زيادة على الاعتبارات الحقوقية الأخرى . إذ ستنحسر المعاملات المستقبلية وستزداد مخاطر الإقراض والبيع الآجل بندًا آخر يتعلق بتآكل قيمة النقود .
كما أن اتجاه قيمة النقود إلى الانخفاض ، يجعل الأفراد يميلون إلى استهلاك العاجل ، ويحجمون عن الادخار ؛ لأن النقود ما عادت أمينة على حفظ قِيَمِهم بشكل نقدي . وفي هذا هدر للاستثمارات الاحتمالية ، التي كان يمكن أن تتحقق عن طريق الادخار ؛ مما يحرم الاقتصاد من عدته الإنتاجية ، ويرفع من تكاليف التعامل بالأصول الحقيقية ؛ لأنها لا تملك قدرًا من السيولة ، كالذي يتاح في النقود . وهذا يلجئ إلى المضاربات الآنية أو قصيرة الأجل ، مما يسيء أيما إساءة إلى الاستثمارات الحقيقة ، بوأدها أو إجهاضها .
ومما لا شك فيه أن اتجاه قيمة النقود إلى الارتفاع له آثاره الضارة أيضًا . فحقوقيًّا يشغل ذمم المدينين بما ليس فيها ، فيحجم الناس عن أي تعامل يمتد عبر الزمن ، تلافيًا لاحتمالات زيادة قيمته. وهذا بدوره يضيِّق آفاق المعاملات ، كما أن هذا الاتجاه يدفع إلى تفضيل الاكتناز والادخار على حساب الاستهلاك الجاري والاستثمار الحقيقي، فيؤدي إلى نقص في الطلب الكلي، يتزامن مع فيض رؤوس الأموال جراء الادخار ، مما يقود إلى أزمة قصور الطلب الكلي عن استيعاب العرض الكلي ، فينشأ الكساد والبطالة .
وعليه فثبات قيمة النقد ، شرط للتعامل السليم حقوقيًّا ، وشرط لتوسيع حجم المعاملات ، وضمانة لها عبر الزمن . وهو كذلك شرط لحماية خيارات الفرد في التصرف بما يحوزه من قيم أو دخل، دون ضغوط مؤسسية تشوه هذه الاختيارات؛ سواءً في قراراته الاستهلاكية أو الاستثمارية. وحين يعم هذا المناخ الاقتصاد كله ، فعندئذ يكف القطاع النقدي عن تصدير الأزمات الاقتصادية.
وإذًا فالأداة النقود ، الكَفِيَّة ، ما ينبغي أن تكون إلا ثابتة القيمة .
كفاءة النقود وأشكالها : تحقيق آخر
إذا كنا قد خلصنا إلى أن ثبات قيمة النقد مطلب شرعي حقوقي، له آثاره الاقتصادية فلنا أن نتساءل عن الشكل الذي يكفل كفاءة أداء النقد لوظائفه، من خلال ضمان الاستقرار في قيمته، فهل كان التحول إلى نظام المسكوكات -الذي امتدحه (الماوردي) و(ابن خلدون)- كافيًا لضمان الكفاءة؟ وهل أن تقلّب المجتمعات بين نظام المعدن الواحد ونظام المعدنين أحرز شيئًا منها؟ وما موقف الشريعة تحديدًا من أشكال النقود؟
إن الإجابة على هذه التساؤلات تستلزم معاودة النظر في موضوع (خَلْقية النقدية) في الذهب والفضة ، أي كونهما نقدًا بحكم الخِلقة . وينبغي أن نحدد ما نهدفه من مناقشة ذلك ، فلا اعتراض على أنهما نقدان شرعيان بإقرار الأحكام وورودها فيهما زكاةً ورِبًا وكنزًا وسَلَمًا ، إنما التساؤل هو : هل أن الطبيعة المادية لهما هي السر في نقديتهما ، أم أنها مواضعة اجتماعية تاريخية كونهما نقود عهد التشريع ، فيشار إليهما من باب حكاية الفعل؟ وهل أن الكفاءة قائمة فيهما خلقة وطبعًا ؟
ربما يكون التذكير بالنظام النقدي على عهد التشريع لازمًا لما نحن بصدده ، فقد كان النظام النقدي السائد على عهد النبي e هو نظام المعدنين Bi-****************llism الذهب والفضة ، وأن المعتبر فيهما هو الوزن ، على عرف مكة ، لقوله عليه الصلاة والسلام: “الميزان ميزان أهل مكة” .
إن نظام المعدنين كما نعلم يفترض حرية واستقرارية صرف أحد المعدنين بالآخر . وقد كان سعر صرف الدينار الذهب بالدراهم الفضة هو 10:1 ، وهذه النسبة معتبرة في كل الأحكام التي عرفت بالنقد على عهد التشريع وهي نسبة استقرت طيلة هذا العهد إلى الحد الذي أغرى بوصفها بأنها : “سنة ماضية... على ما كانت في الزمان الأول” كما روي عن الإمام مالك . ولكن الذي حصل أن هذه النسبة لم تدم على ما هي عليه ، إذ سرعان ما بدت قيمة الذهب تسمو قياسًا إلى الفضة . ومن الرصد التاريخي لتطور سعر الصرف تبين أن الدينار الواحد الذي كان يصرف بعشرة دراهم على عهد التشريع صار يصرف بـ (15) درهمًا على عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز t و(22) درهمًا على عهد الرشيد و(25) درهمًا على عهد القادر . وذكر المقريزي أنه صرف في مصر سنة 497هـ بـ (34) درهمًا .
ولقد حَقَّقتُ سعر صرف المقادير الشرعية من كلا المعدنين في أيامنا هذه فوجدتها بنسبة (1دينار ذهب : 163 درهم فضة) تقريبًا ، وهذا كما نرى بعيد جدًّا عن النسبة التي اعتبرت في التعديل في أنصبة الزكاة والديات والقطع ، ومصدر إرباك في تعريف هذه الأنصبة بالنقود الاصطلاحية كما لاحظنا ذلك عند بحثنا لنقود عصور الاجتهاد .
وفي الحقيقة يمكن أن نرصد عدة عوامل تؤثر في سعري الذهب والفضة جملة وفي سعر صرفهما ببعضهما . ولعل أبرز هذه العوامل يتمثل في :
- تكاليف إنتاج كلا المعدنين وتأثيرها على عرضهما .
- الاستخدامات البديلة لكلا المعدنين وتأثيرها في الطلب عليهما .
- العوامل الإدارية المتعلقة بالسياسات النقدية ودورها في التأثير فيهما .
- العرض السلعي واتجاهات تطوره .
وعلى الجملة فمع افتراض ثبات العرض السلعي فإن قيمة النقود تصبح دالة عكسية لكميتها في محيط التداول على نحو ما تقضي به النظرية الكمية . هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن قيمة أي من المعدنين ستصبح متغيرًا تابعًا لكل ما يؤثر في علاقته النسبية بالمعدن الآخر .
والحق أن النظرية الكمية بشكلها التقليدي ليست وحدها التي تؤكد طبيعة هذه العلاقة ؛ فالنظرية الكمية المحدثة هي الأخرى تؤكد ذلك وتدعمه باستقراءات تاريخية لا يمكن تجاوزها ، ولم تتخلف حتى النظرية الكينزية عن تأطير هذه العلاقة ، طالما كانت مرونة العرض الإنتاجي محدودة، وطالما كانت هناك تباطؤات واختناقات لا يمكن تجاوزها ؛ هذا فضلاً عن الحالة الكلاسيكية ، أي عندما يكون الاقتصاد بمستوى التشغيل الكامل .
ولا ينبغي أن يرد هنا القول بأن هذا التحليل ينصرف إلى اقتصادات غير إسلامية ، فالعلاقة النسبية بين النقد/الناتج (أي بين كمية النقد وقيمته) تبقى علاقة فنية رغم كل ما يقال عن المضامين السلوكية التي تقترن بالأحكام الشرعية في اقتصاد إسلامي . وإذا كان عصر التشريع لم يذكر لنا واقعة اضطربت فيها العلاقة بين المعدنين النقدين فإن ذلك لا يعني أن التاريخ الاقتصادي سيبرأ من هذه المعضلة ، فقد لاحظنا ذلك في التاريخ الاقتصادي للدولة الإسلامية من رصد اتجاه سعر صرف المعدنين النقدين ببعضهما ، كما لوحظ ذلك في التاريخ الاقتصادي المعاصر ، فقد أدى اكتشاف مناجم الذهب في كاليفورنيا وأستراليا إلى هبوط في قيمته تجاه الفضة منذ عام 1850 حتى عام 1871 حيث اكتشفت مناجم (نيفادا) للفضة فأدى ذلك إلى هبوط قيمتها تجاه الذهب .
وقد أدت الصعوبات الناجمة عن قاعدة المعدنين بافتراق أسعار الصرف الفعلية السوقية عن أسعار الصرف القانونية التعريفية إلى تخلي الدول تباعًا عن هذه القاعدة واعتماد قاعدة المعدن الواحد .
وإذا كانت ظروف إنتاج كل معدن تترك أثرها في قيمته النسبية تجاه المعدن الآخر ، وكذلك تجاه العرض السلعي فإن استخداماته البديلة (غير النقدية) هي الأخرى تترك أثرها في قيمته . روى المقريزي أن الفضة قد عم استخدامها على عهد الظاهر (برقوق) بمصر لأغراض تَرَفية ومظهرية في بيوت الأمراء وأتباعهم ولأجل ذلك عَزّت بعدما كان يُدفع منها في الدينار الذهب إلى ثلاثين درهما ، يقول: “وقلّت الدراهم (الفضة) ... ووجد الذهب بأيدي الناس ، بعد أن كان لا يوجد مع كل أحد ، ... فمات الظاهر وللناس ثلاث نقود أكثرها الفلوس ، ... والثاني الذهب وهو أقل ... ، وأما الفضة فقلّت حتى بطل التعامل بها لعزتها” .
ومع التطور التقني المتنامي فإن الاستخدامات الصناعية المتجددة لكل من الذهب والفضة تترك أثرها المؤكد على سعر صرفهما وعلى أسعارهما جملة قياسًا إلى العرض السلعي .
وإذا كان التذبذب في أسعار صرف النقدين المعدنيين قد جاء نتيجة عرضية للتطور الاقتصادي والاجتماعي والتقني فإنه قد يكون نتيجة طبيعية ومقصودة للمضاربات الهادفة إلى الاتجار بالنقد المعدني واحتكاره ، فقد تحدث (وليام غاي كار) عن جانب من مناورات المؤسسات المصرفية وامتداداتها لتقويض نقدية الفضة في الولايات المتحدة عندما استصدرت قانونًا سمي قانون إصلاح العملة خلعوا فيها الفضة من وظيفتها النقدية بعد أن أحكموا سيطرتهم على الذهب . ثم لم يمض قرن من الزمان حتى قُوِّض سلطان الذهب أيضًا وخرجت دول العالم تباعًا عن نظام الذهب ودُق الإسفين الأخير في نعش هذا النظام في منتصف آب 1971 بتخلي الولايات المتحدة عن التزامها بصرف الدولار بالذهب ، فانهار نظام Bretton Woods وأضحى النظام الورقي خلفًا حتميًّا على نحوٍ شامل .
والذي نستفيده من كل ما تقدم
إن توكيد الكتّاب بأن نظام المعدنين الذي كان سائدًا في عصر التشريع هو النظام النقدي المراد خِلقَة والواجب تكليفًا لم يقم عليه دليل توقيفي قط ، ولم يسلم عند النظر المنطقي الذي يجاري الأصول الشرعية ومقاصدها . فقد لاحظنا أن المقصود من النقود هو تيسير التبادل وضبطه وأن وظائفها لكي تنجز بكفاءة فإن ذلك يستدعي ثبات أو استقرارية قيمة النقد ، وهذا أمر مدرك عقلاً وهو من لوازم العدل في المعاملات ، لكن نظام المعدنين لا يوفر هذا المطلب الشرعي بشكل آلي ، وإن كان عصر التشريع قد تميّز باستقرار نقدي أكيد .
إن ورود الأحكام صراحة بالذهب والفضة من حيث هي مواضعة اجتماعية تاريخية لا يعني أن هذا النظام الميسر عالميًّا على عهد التشريع ، هو النظام المختار تكليفًا وتوقيفًا . فقد لاحظنا أن الأنصبة الشرعية قد اضطربت من جراء الاضطرابات في أسعار صرف المعدنين (الذهب والفضة) وما عاد تعريف النصاب بهما يعني شيئًا واحدًا كما كان على عهد التشريع في ظل سعر صرف (10:1) وهو ما أثار مشكلة اجتهادية تعرضنا لها سابقًا .
إن المسألة المتقدمة كما نعتقد لا تعدو أن تكون حكاية فعل فهي تقرير لواقع الحال على عهد التشريع ولا تنطوي على الإلزام به من حيث اعتماد الذهب والفضة للنقدية ؛ فقد تعامل المجتمع الإسلامي في فجر الإسلام بالنقود التي كانت سائدة قبل البعثة النبوية الشريفة في الممالك المجاورة ، وتعامل بها على عرف قريش الجاري آنذاك (وزنًا) ، كما أنه لم يتعرض حتى لما فيها من نقوش وشارات منافية للمقررات الإسلامية حتى كان ذلك على عهد عبد الملك بن مروان.
ولعل ما يدل على تجرد الموقف المبدئي عن هذه المواضعة التاريخية ذلك الفهم الذي فقهه الخليفة الراشد (عمر بن الخطاب) t إذ اعتزم أن يتخذ الدراهم من جلود الإبل حين كثر الغش فيها . ولم يعارضه معارض بحجة أن الدراهم المتخذة من جلود الإبل ليست نقودًا خلقية إنما حُذِّر من انقراض الإبل فعدل عما اعتزم .
وقد أجرى الإمام مالك الثمنية في الفلوس (النقود المعدنية من غير الذهب والفضة) وقال: “لو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهت أن تباع بالذهب والورق نَظِرة” ، وهذه المواقف تؤكد النظرة العرفية في النقود وهو ما أكده ابن الهمام أيضًا تقريرًا عن الفقه الحنفي في أن الفلوس الرائجة عرفًا هي أثمان اصطلاحية وهو ما أكده ابن تيمية بقوله : “إذا صارت الفلوس أثمانًا (عرفًا) صار فيها المعنى ...” وقال أيضًا عن النقود: “هي وسيلة... والوسيلة التي لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيف كانت” .
فهذا واضح في دلالته على عرفية النقد فالمسألة إذًا مسألة نقدية الذهب والفضة ، ليست أكثر من مواضعة اجتماعية تاريخية تعبر عن حكاية فعل ولا تعبر بالضرورة عن مطلب شرعي توقيفي .
ولقد أكد ابن منيع : “أنه لا دليل شرعي ولا تاريخي ولا نظري عن أن الذهب والفضة خُلِقا للثمنية على الرغم من أنهما أكثر من غيرهما إيغالاً في الثمنية” . وقد تقدم معنا كلام ابن حزم بنفس المضمون .
على أن المسألة الجوهرية التي تجعلنا نعتقد بأن شكل النقود المطلوب شرعًا لا يتمثل حصرًا بالذهب والفضة -وإن تلبّس بهما تاريخيًّا- هي فقدان السيطرة على قيمة الوحدة النقدية وما يلزم لذلك من إدارة واعية وهادفة لعرض النقد ، وهذا كما تقدم مطلب شرعي بكل تأكيد . والمطلب الشرعي لا يمكن أن يوكل إلى الظروف التي تؤثر في إنتاج المعدنين أو الطلب عليهما أو إلى المضاربات الهادفة إلى الاسترباح من احتكارهما .
والخلاصة أنه يتحتم علينا الإقلاع عن تلك النظرة العفوية التي تعامل بها الأقدمون مع نظام المعدنين والتي درج عليها كثير من كتابنا المعاصرين .
ما بعد النظام المعدني
إذا كنا قد أفلحنا في التمييز بين وظيفة النقدية وبين الشكل التاريخي للنقود المتمثل بنظام المعدنين ، فينبغي أن لا ننسى أن هذا النظام -رغم كل ما قيل عنه- له حسنة كبيرة بارزة تمثلت في وضعه حدودًا كمية صارمة على عرض النقد ؛ وهذا ما افتقدناه تمامًا في النظام الورقي الحديث الذي مكّن مؤسستين كبيرتين من الافتئات على الهيئة الاجتماعية هما المصارف التجارية والحكومات .
أما المصارف التجارية فقد كانت تمارس دور المصدر للنقود الورقية حينما كانت هذه في أطوارها الأولى نقودًا مستندية أو نائبة قابلة للتحويل فاستفادت من مركزها بين الجمهور ليس عن طريق الإقراض بربا فحسب، إنما عن طريق إصدار النقود الورقية بحجوم تفوق احتياطاتها الذهبية؛ وهي حقوق على الموجودات الحقيقية ، وبذلكأشركت نفسها مع الجمهور في ملكية أصوله .
وحينما انتبه ملوك أوروبا إلى حقيقة الدور الذي تلعبه المصارف التجارية انتزعوا منها وظيفة الإصدار النقدي وحصروها في مصارف الإصدار التي يديرونها . ومن عهدها لم تتورع الحكومات عن الإصدار النقدي طالما أمِنت رقابة الجمهور ؛ فقد وجدت فيه بديلاً سهلاً عن الضرائب . فتطفيف حافظة الممول (بتخفيض قيمة النقود عن طريق الإصدار الجديد) أيسر من انتزاع وريقات منها بشكل ضرائب .
وهكذا أصبحت الحكومات تشاطر رعاياها أصولهم الحقيقية ليس بصفتها قيّمة على الموارد العامة وإنما لكونها تملك سلطة الإصدار .
ولم تكن المصارف التجارية ، ومن ورائها أبواق المرابين، بالتي تسكت عما تفعله الحكومات، ما لم تُشْرَك في ثمار هذا “الفيء العريض” ، فبدأت تولد نوعًا جديدًا من النقود هو نقود الودائع أو النقود المصرفية تعوض به ما فاتها من إصدار النقود الورقية . وما لبث هذا الشكل الحادث من أشكال النقود أن توسّع على نحو سريع ، وصار ينهض بتسوية الجزء الأكبر من التزامات المتعاملين في الدول المتقدمة .
إن الممارستين السابقتين كلتاهما قد أساءت إلى قيمة النقود أيما إساءة وصارت هذه الأخيرة رغم التنامي الهائل في الإنتاج (الذي يُفترض أن يرفع من قيمة النقود) في انخفاض مستمر من جراء التوسع في الإصدار والإقراض .
ولكن كيف تسنّى للمصارف أن تولِّد نقود الودائع؟!
النقود المصرفية : نقود الودائع
اكتشفت المصارف بالتجربة الفعلية أن من يودعون لديها النقود لا يسحبون في آن واحد ما أودعوا . بل يسحبون جزءًا يسيرًا منه في أي يوم معين ، فيكفيها والحالة هذه للوفاء بطلبات السحب أن تحتفظ باحتياطي صغير ( مثلاً 10% ) من مجموع ما أودع لديها؛ وما زاد ( وهو 90% من الودائع في مثالنا ) تقرضه وتنتفع بفوائده . وقد كانت نسبة هذا الاحتياطي في البداية تحدد اجتهاديًّا ، ثم مع تطور العمل المصرفي صارت تحدد عرفيًّا ، ثم بعد ذلك جاءت الحكومات لتضفي مصادقة على هذا العرف المصرفي ، بل لتفرضه بنسبة محددة تسمى نسبة الاحتياطي القانوني تستعملها كأداة تتحكم من خلالها بحجم الائتمان. ويُسمح للمصارف صراحة بإقراض ما زاد عن هذه النسبة من ودائعها .
وقد حلل الاقتصاديون بدقة نتيجة هذا الترتيب ( المسمى نظام الاحتياطي الجزئي ) وتبينوا أنه يسمح المصارف التجارية أن تولد من مقدار معين من النقود الأصلية التي تودع لديها ، عدة أضعافها من الودائع المصرفية المشتقة التي تستخدمها المصارف في تقديم التمويل وتستفيد من عوائدها .
إن قدرة المصارف على توليد هذه النقود “ المشتقة” يعتمد على حجم ودائعها الأصلية من جهة ، وعلى نسبة الاحتياطي القانوني من جهة أخرى . وينبغي أن لا يغرب عن الذهن أن قدرة المصرف التجاري على توليد الائتمان تعتمد أيضًا على الوضع المؤسسي ، فتطور البيئة المصرفية ، وتجاوب الجمهور مع المصارف ، عوامل تعزز قدرتها على توليد الائتمان ، بينما تعمل عناصر التسرب على تقييد قدرتها على ذلك .
والآن كيف ننظر إلى هذا الشكل النقودي الحادث من الناحية الشرعية ؟
الحق أنني حين كتبت هذا البحث بصورته الأولى لم يكن يساورني أدنى شك في عدم مشروعية نقود الودائع ، وعليها أنحيت باللائمة في انخفاض قيمة النقد (تأصُّل الميول التضخمية) إلى حد كبير ، ولم يكن يَدُر في خلدي أن أحدًا من المعنيين بقضايا الاقتصاد الإسلامي يخالف في ذلك، لكني فوجئت بوجهات نظر معتبرة ألزمتني الحجة في مناقشتها ؛ وكان لا بد من مراقبة نشأة النقود المصرفية بشيء من التفصيل على النحو الذي تقدم علّنا نخلص من ذلك إلى تكييف شرعي مناسب.
الموقف من النقود المصرفية ومشروعية توليدها في اقتصاد إسلامي
في عرضه وتقويمه للكتابات حول النقود في اقتصاد إسلامي ، لاحظ (د . محمد عبد المنعم عفر) أن المهتمين بقضايا الاقتصاد الإسلامي قد انقسموا بهذا الصدد بين مجيز للمصارف التجارية الإسلامية في توليد نقود الودائع ومانع لذلك ، مع اتفاق الفريقين على ضرورة تثبيت قيمة الوحدة النقدية واعتماد السياسات الموصلة إلى ذلك ومنها وجوب التناسب بين نمو عرض النقد والاحتياجات الفعلية للاقتصاد بما يؤمِّن استقرار الأسعار .
ولأنني وضعت نفسي ابتداءً في جانب المانعين من توليد نقود الودائع -ولو كانت من قبل مصارف إسلامية- لذا ، فسأعرض لمناقشة حجج القائلين بإجازتها بشيء من التفصيل .
وابتداءً أقول أن طائفة من المجيزين لنقود الودائع ، منهم عيسى ومجذوب والزهراني ، اشترطوا ملكية الدولة للمصارف التي تولدها ، ولا نقاش لي مع هؤلاء لا من ناحية إدارة عرض النقد ولا من ناحية عائدية الإصدار وعائدية أرباحه ؛ فالمصرف التجاري حينئذ يكون واحدة من هيئات المصرف المركزي المعنية بالإصدار ليس غير . وإذًا فالمسألة تنحصر في مناقشة آراء المجيزين للمصارف التجارية في توليد نقود الودائع ، حينما تكون هذه المصارف مملوكة ملكية خاصة . “ويتكون هذا الفريق من عدد كبير من الاقتصاديين المسلمين ... منهم شابرا ، وصدّيقي ، ومحمد أحمد ، ومحمد عزير ، وعبد الرحمن يسري ، وعلي عبد الرسول ، ومحمد عارف ، وأحمد النجار، ومجلس الفكر الإسلامي بباكستان ، ومحمد أكرم خان ، وعفر وخطّاب ، والحسني وكوثر الأبجي”، هذا وتجدر الإشارة إلى أن بعض هؤلاء قد قيّد إجازته بإشراف الدولة على إدارة المصارف الخاصة واشترط آخرون عائدية أرباح الإصدار جزئيًّا أو كليًّا للدولة .
والذي يفهم من سياق الكلام أننا لسنا بصدد قدرة المصارف فنيًّا على توليد نقود الودائع إنما بصدد ترجيح اجتهاد شرعي في الإجازة وهو ما صرحت به (د . كوثر الأبجي) إذ رأت أن ذلك عمل “لا يخالف الشريعة الإسلامية” وهو ما تبنّاه (د . عفر) ودافع عنه بشدة كما سيتضح لاحقًا .
فما هو يا ترى نصيب هذا الاجتهاد من الإصابة؟!
قبل الإجابة على هذا التساؤل دعنا نتتبع المسألة بتدرجها الطبيعي بعد توكيد التقريرات الآتية :
(1) إن وحدات النقود في محيط تداول ما ، تمثّل ح | |
|
نادر نجم نجوم المنتدى
عدد المساهمات : 1074 رصيد نقاط : 8421 رصيد حسابك فى بنك نور : 40 تاريخ التسجيل : 21/02/2010
| موضوع: رد: النقود الإسلامية ، كما ينبغي أن تكون الخميس سبتمبر 30, 2010 2:11 am | |
| | |
|