الحلم في حياة الشعوب
إن
الاهتمام بمادة الأحلام قديم قدم النفس البشرية … بل إن الشعوب البدائية
كانت تهوّل من أمر الأحلام وما يتراءى فيها تهويلا لا نعهده لدى أبناء
العصر الحاضر ....
وكان
القدماء يعتقدون أنهم يرون في منامهم صورا ترد عليهم من عوالم ما فوق
الطبيعة … فالأحلام إنما هي رسائل كائنات علوية فوق مستوي البشر وتعبر عن
تلك الإدارات الخارقة للطبيعة ، ولذا كانوا يهتمون بما يرونه في أحلامهم
ليعرفوا منه مدلولات الغيب . .
وكانت
بعض قبائل الإسكيمو يعتقدون أن الروح تترك الجسم أثناء النوم وتعيش في
عالم آخر خاص بها وأن إيقاظ الحالم من نومه يسبب خطراً كبيراً يهدد بضياع
الروح وعدم قدرتها على العودة إلى الجسم مرة أخرى … حتى وصل الأمر أن بعض
القبائل الهندية القديمة كانت تعاقب بشدة كل من يوقظ نائما.
وفي
بعض الحضارات القديمة مثل قبائل الزولو كانوا يؤمنون بأن ما يحدث في الحلم
لا بد أن يتحقق ..فإذا رأى في منامه أنه يقتل إنساناً ..يبحث عنه حثيثا
حتى يقتله .
ولم
يقتصر الأمر على الحضارات القديمة بل إن بعض القبائل الكردية تعتقد نفس
المعتقد ، فالرجل الكردي يقص حلمه على أهله صباحاً ثم يشرع في تنفيذه مهما
كانت الموانع .
وقد
كان المصريون القدماء هم أول من أعتقد بأن الأحلام إيحاء مقدس وكانوا
يسمونها الرسل الغامضة إلى النائم للإنذار بالعقاب أو المواساة والتعزية
والتبصير ، وقد وجدت بعض البرديات منها بردية تسمي ( بردية شستربيتي) نسبة
إلى مكتشفها في عهد الأسرة الثانية عشرة قبل الميلاد وبها تفسيرات للأحلام
ومعناها ، كأول محاولة من نوعها في التاريخ .
أما عند الإغريق فالأحلام دائماً رسالة من الآلهة ، وبصفة خاصة من كبيرهم ، يرسلها إلى النائم عن طريق حصن له بابان .
باب النفير : وتدخل من الأحلام السعيدة الصادقة والرؤى المبشرة بالخير والبركات .
باب العاج : وتدخل منه الأحلام المرعبة والمزعجة والكوابيس التي تنذر بالسوء والدمار .
وفي
الهند وجدت مخطوطة قديمة من القرن الخامس قبل الميلاد تدعى ( أترافافيدا )
تحتوي على فصل كامل عن الأحلام ورسالتها المرسلة من الآلهة إلى البشر .
وفي
العراق وجد مخطوط خاص بالأحلام ودور الآلهة في حفريات في مدينة النجف
الأشرف بالعراق ،يرجع تاريخها إلى عهد الإمبراطور أشور بانبيبال .
وكان
سقراط يؤمن بقدسية الأحلام وأنها رسائل إلهية إلى البشر تحذرهم من الأخطار
، وتنذرهم من الوقوع في الأخطاء وما يتبع ذلك من عقاب.
أما
أرسطو فقد كان أول من حاول تفسير الأحلام تفسيرا علميا ويعد مؤسس وجهة
النظر الغربية التي تعتبر الحلم حياة عقلية أثناء النـوم ، يقول متحدثا عن
هذه الظاهـرة : (إن الأحلام ليست رسائل ترد علينا من العالم الآخر وأنها
لا تكشف لنا شيئا عن المصادر الخارقة للطبيعة وإنما الأحلام لون من النشاط
النفسي يصدر عن النائم بحسب الظروف التي يكون عليها نومه) .
فالأحلام
إذن تعبيرات حسية من عوامل خارجية وملامسات عضوية تتوقف داخل الجسم وتخرج
منها تيارات جانبية لها نفس التعبير الحسي أثناء اليقظة ولكنها مكسرة إلى
أجزاء وشراذم صغيرة نتيجة اصطدامها بالنفس البشرية والعقل البشري ، لتصبح
تعبيرات مشوهة للاحساسات الطبيعية الواصلة إلى الجسم ، أي إنها مسخ
للحقيقة الموجودة في اليقظة نتيجة بعثرتها وتكسيرها .
وقد
أدخل أرسطو عنصر التجريب ، كما استفاد من التجارب العارضة لتكوين رأي
واقعي عن الأحلام ، فيذكر أن الحالم قد يتعرض لمؤثرات وهو نائم ، فيجسم
الحلم هذه المؤثرات ، ويضفي عليها المبالغة والتهويل ولربما يري النائم
أنه يشوي وسط حريق ذات لهب ثم يستيقظ فإذا بطرف من أطرافه قد عرضت له
السخونة لسبب من الأسباب كاقترابه من المدفأة أو حرارة المصباح .
ورغم
وجود هذا الرأي الذي يحاول تفسير الظاهرة تفسيراً علمياً فإن الأحلام عند
الإغريق وفي عهد هؤلاء الفلاسفة تحولت إلى شكل من أشكال التنبؤ وخلطت في
معابد خاصة لوسائل أخري للتنبؤ ، مثل استعمال القرابين بواسطة الحيوانات
المختلفة وما قد تعطيه من وحي يغير الطريق أمام الإنسان … فكان المرضى
والمعوقون يتجمعون في أماكن مقدسة خاصة ليناموا ويحلموا تحت إشراف الكهنة
والكاهنات ، بعد عمل صلوات خاصة وتقديم القرابين ثم النوم في انتظار حلم
تزورهم الآلهة فيه ويجلبون لهم الشفاء .
ويذكر هيرودوت أن اليونان وبلاد الإغريق كانت تحتوي في وقت من الأوقات على حوالي 600 معبد مخصص للأحلام وتلمس الشفاء عن طريقها .
و انتقلت الأحلام من معابد الإغريق إلى
مجال اهتمام علماء النفس والأطباء والفلاسفة ، مما أدي إلى ظهور وجهات نظر
مختلفة اختلفت باختلاف زاوية نظر كل فريق وطبيعة كل باحث .فعلماء النفس يعتبرون أحلام اليقظة وأحلام النوم وظائف سيكولوجية متعلقة بوظيفة التخيل ، تحدث في الأغلب عند سكون الحواس والعقل .يقول دي لاكراو : ( إن أحلام اليقظة وأحلام النوم تحدث في حالات خاصة يضعف فيها نشاط العقل والحواس كما يحدث أثناء النوم ).ويقول دوجا : ( إن التخيل على العموم لا المستعيد فقط وإنما المبتكر أيضا يكون أتم فعلا أثناء توقف الوظائف العقلية الأخرى ).ويقول برجسون : ( لكي نستعيد الماضي في شكل صور خيالية يجب أن نكون قادرين على تخليص أنفسنا من أفعال اللحظة التي نحن فيها ).ويقول بورداخ : ( إن الحلم ليس تكريرا
لما يمر في اليقظة من خير أو شر أو متعة أو تقزز ،بل العكس هو الصحيح ،
فالأرجح أن الحلم يرمي إلى تفريغ عقلنا من كل هذه الانطباعات كي يوفر لنا
الراحة من عبء الشحنات في اليقظة بما فيها من خير وشر ).ويقول هافنر : ( الحلم هو استئناف على
نحو ما لحياة اليقظة ، وإذا تأملنا وجدنا أن هناك باستمرار صلة بينهما
وبين الأمور التي كـانت تـشغل تفكيرنا قبل النـوم ومهما خفيت تلك الصلة
فالملاحظة الـدقيقة تستطيع أن تدلنا على اتـصال ولو دقيق بين ما رأيـناه
في الحـلم وما وقع في النهار السابق ).فيجانت يقول : ( إن الحلم لا يبعد عن الواقع ، بل هو على العكس ، يعود بنا ونحن نيام إلى ما ابتعدنا عنه من شو اغل اليقظة )