العصفور
الطائش
فجأة سقط عصفور
صغير بيننا، لم ندر كيف سقط، كنت ألعب مع إخوتي وأبناء وبنات عمي
تحت شجرة جوز ضخمة
في بستان جدي، توقفنا عن اللعب نتأمل بدهشة العصفور الصغير. كانَ يزقزق
ويحدّق إلينا
دونَ مبالاة بعينيه الصغيرتين، بدأنا نقترب منه بحذر ونمدُّ أيدينا للإمساك به
يغرينا
جناحاه القصيران
وانشغالُه بالزقزقة ثم قفزنا نحوه كالقطط الجائعة فارتفَع قليلاً في الفضاء فوق
رؤوسنا وحلّق
على ارتفاع منخفض ثم حطّ في حقل ذرة قريب
ووقف على رأس
عود يزقزق ويتمايل وكأنه يهزأ بنا.
تسلّلنا بخفة وهدوء
بين أعواد الذرة فتشاغل عنا بالزقزقة ونقر الكوز وما كادت أيدينا تقترب منه حتى
رفرف بجناحيه
الصغيرين وطار إلى حقل نعناع. اندفعنا نحوه صارخين فانتظرَنا بشجاعة وحين أصبحنا
على مسافة خطوتين
منه طار بعيداً عن أيدينا ولم نستطع كبح اندفاعنا الشديد فتساقطْنا على الأرض
فوق بعض ونهضنا
ننفض عن ثيابنا غبار الهزيمة وننظر بغضب إلى العصفور الذي وقف على سياج البستان
يزقزق ساخراً
فاشتعل عنادُنا لملاحقته والقبضِ عليه حياً أو ميتاً وحين طار خارج البستان تابعنا
مطاردته
فقفز الكبار من فوق
السور وتسلّل الصغار من بين الأسلاك وجرينا خلفه غير آبهين
بصرخات جدي (إلى
أين تذهبون؟!... إلى أين...؟ عودوا يا عفاريت
لقد صمَّمنا على
الإمساك بهذا العصفور مهما كلّف الأمرُ وركضْنا خلفَه مهدّدين إياه بالسجنِ
في القفصِ والرمي
للقططِ والربطِ بالخيط ولكن العصفورَ الصغير لم يأبه بنا واستمرّ يقفز ويطير
بنشاط من مكان إلى
آخر ونحن نجري خلفه لاهثين وأخيراً اختفى العصفور عن أبصارِنا خلفَ منحدر
وعرٍ مليء
بالحفر السوداء. توقفنا نسترد أنفاسنا ثم أخذنا نجول هنا
وهناك باحثين عن
العصفور الصغير. فجأة علا صراخ أختي تنادي بفزع
أسرعوا.. أسرعوا
ركضنا نحوها...
كانت تقفُ على حافة حفرة عميقة في قعرها طين والعصفور يتخبطُ
فيه محاولاً
الخلاص وحين عزَمتُ على هبوطِ الحفرة وإنقاذِ العصفور
شدّتني أختي
إلى الخلف وهي تصْرُخُ برعب
الأفعى..الأفعى
تجمّدنا مذعورين
ننظرُ إلى أفعى سوداء تزحفُ من جُحرها متلويةً نحو العصفور وتمدّ لساناً
متشعباً بين الحين
والآخر... ارتفع صراخ ابن عمي يشتمُ الأفعى ويطلب منها العودةَ وتركَ
العصفور
فتبعناه بصراخنا وتعالَتْ صيحاتُنا كما خبطْنا الأرضَ بأقدامنا.
توقفت الأفعى قليلاً
تحدق إلينا بعينيها المرعبتين ثم تابعَتْ زحفها
نحو العصفور
الذي قيّده الرعبُ فاستسلمَ للهلاك القادم
غابَتْ أصواتُنا
شيئاً فشيئاً وخيمَ الصمت، عيونُنا ترقب الأفعى بخوف وقلوبُنا يعصرُها الحقد
ولم أدرِ كيف
امتدّتْ يدي نحو الأرض والتقطَتْ حجراً ثم قذفته بكلّ قوة وحقد نحو الأفعى فوقعَ
قريباً منه
تباطأَتْ
فأتبعتُه بآخر فأصابَها وسُرعان ما انهمَرتْ الحجارةُ فوقها تصيبُ وتخطئُ وحينَ
أصبحَتْ حجارتُنا
أكثرَ دقة في
إصابةِ جسدِ الأفعى تلوّتْ متألمةً ثم انثنتْ هاربةً إلى جُحرها وحجارتُنا تلاحقُها
حتى اختفت فيه.
وشعرتُ بقوة غريبة
تدفعني فوثبْتُ نحو قاعِ الحفرة تصلُني صرخاتُ التحذيرِ والتشجيعِ
وانتشلْتُ العصفورَ
من الطينِ ثم قفزتُ خارجَ الحفرة بسرعةٍ عجيبة.
عُدنا إلى البستان
نتبادلُ حملَ العصفور الصغير نضمُهُ بحنان وحبّ إلى صدورِنا ولمّا وصلْنا كانَ
جدي ينتظرُنا
عابساً أمامَ باب البستان وفي لحظات قليلة روى لـه الصغارُ كلّ شيء.
نظرَ إلينا بدهشةٍ
وإعجاب.. دخلْنا البستانَ.. فأحضرَ جدي سلماً
أسندَهُ إلى جذعِ
شجرةِ الجوز وأعاد العصفور الطائشَ إلى عشه.