لعبة
النهر
كان سامر سعيداً
جداً ومحظوظاً لأن نهراً رائعاً يمرّ من قريته
ولأن كثيراً
من الطيور تأتي في فصلي الربيع
والصيف تتمشى على
ضفتيه، وتنقر البذور والثمار المتساقطةوهي
تخوض في
الماء بسيقانها الطويلة
ولم يكن سامر وحده سعيداً، بل شاركه هذا الفرح كل أهل
قريته
والحقيقة أن النهر هو السبب الذي حوّل
حياتهم إلى متعة لا تنتهي أبداً، فلا يكاد اسم النهر
يفارق ألسنتهم
فإذا حدّثوك عن الماضي، راحوا يروون كيف أن أجدادهم
صنعوا زوارق بسيطة من القصب
ووصلوا القرى البعيدة عبر هذا النهر، فباعوا
واشتروا، وربحوا مالاً
وجلبوا حلوى أحبّها الأطفال كثيرا
عشرات القصص والحكايات الممتعة يتناقلونها، والنهر دائماً
حاضر فيها أبدا
فبعد كل جملتين ينطقون بهما تسمعهم يقولون
الحمد لله! والشكر لله..!! لقد كرّمنا بهذا النهر الطيّب
ويعلّق "عيروض" الذي لا عمل لـه سوى مشاكسة الأولاد
والبنات
وإحصاء أعشاش الطيور على أشجار الضفة: اسمعوا يا
ناس
هل تظنّون أن النهر مرّ من قريتنا هكذا لأجل خاطرنا فقط
لا أبداً وحياتكم!! إننا نحن من بنينا البيوت على ضفتيه،
وحفرنا الترع، وأقمنا المزارع
ولأول مرة يبدو كلام عيروض واضحاً وجميلاً! فابتسم
الناسوعادوا يحمدون الله على كل حال
كان سامر صديقاً لعيروض على الرغم من كلّ شقاوته وأفكاره
الغريبة، فهو معجب بخفة ظله وروحه المرحة
ولكن يبدو أنّ الشقاوة تعدي.! واختراع الألعاب
الغريبة قد يجرّ على الأطفال أموراً ما كانوا يحسبون لها أيّ حساب
ففي يوم من الأيام قرر سامر أن يكون له مع هذا النهر قصة
ما يرددها الناس زماناً طويلاً
فبدأ خياله يعدّ الأفكار، وكان كلما اهتدى إلى
فكرة سرعان ما يتخلّى عنها! إمَّا لأنها غريبة جدَّاً
أو لأنها تثير الفزع أو الخراب وهذا لا يقبله
صديقنا سامر، وهو التلميذ
المجتهد الذي يفوز دائماً بالمراتب الأولى في صفه
ويصفّق له المدرّسون والطلاب في نهاية العام
الدراسي
فقد فكّر في أن يصنع تمساحاً كبيراً من الورق المقوّى
والجلد، ثم يطلقه في مياه النهر
ليرعب أهل القرى المترامية على ضفتيه بعد أن يعلّق
عليه يافطة فيقول
احذروا فالتماسيح قادمة إليكم
ولكنه نفى الفكرة عنه، ثم خطر له أن يصنع طوفاً من الخشب
العتيق
ويغرس في وسطه عموداً طويلاً وفوقه علم القراصنة
بالجمجمة والعظمين
ولكن صديقه "كنان" نصحه بترك ذلك قائلاً: قراصنة؟! أنت
أبله حقاً، ما حاجتك إلى ذلك كله
بل ماذا سيقول الناس عندما يرون ذلك؟! وزاد غضب كنان
عندما علم أن صديقه
كان ينوي ربط هرّة إلى الطوف! فراح يتمتم: أيضاً؟ لا هذا
عيب وحرام!!
وافترقا بلا وداع ثلاثة أيام كاملة لم يلتقيا خلالها
أبداً!! لكن سامر استطاع أن يهتدي إلى الفكرة المناسبة أخيراً
جمع كل ما أمكنه من زجاجات فارغة حتى زادت عن الثلاثين،
ثم أدخل في كل منها نسخة من رسالة كتبها
ثم أحكم سدّها ورماها إلى النهر ليحملها التيّار بعيداً
بعيدا
وعاد سامر إلى البيت وهو مطمئن أنه سيتسلّى كثيراً في
هذه العطلة، أمّا الرسالة التي كتبها
سامر وأودعها في الزجاجات دون أن يطلع عليها أحداً من
أصدقائه فقد كانت تقول:
إنّ ملك قرية النهر العالية ينوي أن يزوج ابنته الحسناء
ممّن يستطيع أن يحلّ لغزاً سيطرحه الملك عليه
في اليوم المحدد للمسابقة! وقد جعله يصادف يوم
افتتاح المدرسة!
ثم طلب إلى كل من يود المشاركة في هذه المسابقة أن
يراجعه على هاتفه المنزلي
بعد أن أثبت الرقم في ذيل الورقة وإلى جانبه توقيعه
الأنيق
الداعي لكم بالفوز.. سامر
وصار سامر لا يبرح منزله، بل يظل قريباً من الهاتف، وكان
كلّما رنّ جرسه يسرع بالردّ
آلو.. أنا سامر نعم! فمن أنت من فضلك؟!
ويجيئه الصوت من الجهة الأخرى: مرحباً سامر، ماذا بك يا
ولد ما عدت تعرف خالك؟!
أهلاً خالي، ظننتك شخصاً آخر! أنا آسف، سأنادي أمي..
وتكرر ذلك حتى أوشك أن يملّ، وعرف أن تجربته فشلت بل
إنها لم تكن مسلّية أبداً! وقد نغّصت عليه أوقاته
فالناس جميعاً صاروا يعرفون أنّ الملوك الذين
يزوّجون بناتهم بهذه الطريقة ليسوا موجودين إلاّ في الحكايات وحدها
إنّ الذين يشاركون في مسابقات كهذه يجيئون على
ظهور الخيول الأصيلة، مثل فرسان الحكايات
ولا يتّصلون عبر أجهزة الهاتف..! وأنّ لعبته أصلاً
لم تكن سوى لعبة حمقاء
بدأ يندم لأنه صادق عيروض الشقيّ، صاحب المغامرات
والخيال الغريب
بعد أيام، وبينما كان سامر مشغولاً بعزق التراب حول
وردته البيضاء في حديقة المنزل
جاء من يناديه ليردّ على الهاتف، إنهم يطلبونه
في البداية ظنّ أنّ واحداً من أصدقائه يريد أن يدعوه
لزيارة أو نزهة
لكنّ المتحدّث كان امرأة يسمع صوتها أول مرّة عبر
سمّاعة الهاتف
سلمتْ عليه بحرارة بعد أن سألته أنت سامر
قال: نعم أنا سامر، لكن من أنتِ لو سمحت
راحت تشكره من صميم قلبها لأنه خفف عنها عبء مشكلة كبيرة
ولكن أيّة مشكلة؟ لم أفهم
إنها الزجاجات يا عزيزي! الزجاجات التي حملها النهر إليّ
إنها الآن ملأى بمربى الخوخ والمشمش والكرز،
ولولاك لما كنت أعرف كيف أتدبّر أمري
الحقيقة إنّه لم يكن لديّ ما يكفيني منها لقد التقطت عشر
زجاجات وسعت كلّ ما صنعت من المربّى هذا العام
وأنا أعدكَ أنني سأرسل لك بعضه في أقرب فرصة، إنني
أريدك أن تتذوّقه.. ثم شكرته مودّعة
"مع السلامة" قال سامر، وحمد الله على أنها لم تسأله أية
أسئلة أخرى
عن الملك أو عن ابنته الحسناء التي توشك على
الزواج
وأقسم أنه لن يتسلّى بعد اليوم إلاّ بما ينفع
الناس