كان يا ما كان في بلدة جميلة تدعى (زهر البيلسان) يعيش عددٌ من الأطفال، أعمارُهم كأعماركم وأسماؤهم كأسمائكم.. (أسامة.. طارق.. مازن.. ليلى.. خولة..) يتعلّمون في مدرسة البلدة يلعبون في ساحاتها يمرحون وينشدون، يتخاصمون أحياناً ولكنهم سرعان ما يتصالحون. لم يكن يعكّر صفاء حياتهم الحلوة سوى صبي ضخم الجسم اسمه عمران يهوى إيذاء الصغار والحيوانات المسكينة، ويتفاخرُ بأنّ جميع الأطفال يخافون منه. وفي نهاية العام الدراسي من السنة التي حدثَتْ فيها قصتُنا نجحَ جميعُ الأطفال مِن صفهم ما عدا عمران، فقد رسب كما توقع الجميعُ،ولكنَّ هذا لم يحزنْهُ كثيراً بل قالَ في نفسِه: (ولماذا أحزن ما دمتُ سأترك المدرسة وأسافرُ بعيداً عن هذه البلدة؟!) ثم ركضَ خلفَ الأطفال الناجحين واعترضَ طريقهم واقفاً أمامَهم
بجسدِه الضخم كمارد المصباح في حكاية
علاء الدين (التي تعرفونها) وصرخ في وجوه الأطفال.
-هيه أنتم! مَنْ يصارعني الآن منكم؟!
نظر الأصدقاء بعضهم إلى بعضٍ وهزّوا رؤوسهم مُشفقين، وتابعوا طريقهم إلى بيوتهم بعد أن أفسد عليهم عمران بعضاً من سعادتهم ثم لحق بهم وهو يصرُخ.. جبناء.. جبناء.. ومضى نحو بيته نافخاً صدره رافعاً رأسه بغرور كديك منتصر على دجاجة هزيلة. كان بيتُ عمران يقع في طرف البلدة وقد بناه والده قبل أن يموت بسنوات على رابية تشرف على غابةٍ كبيرة تمتد نحو الغرب حتى الوديان البعيدة العميقة. وبينما كانَ عُمران في طريقِه سمعَ فجأةً صوتاً يناديه (عمران.. عمران.. ما تفعلُه خطأ يا عمران!..)
رفع رأسه فوجدَ حمامة زرقاء لها ذنب أبيض. فصرخ عمران:
-مَنْ أنت وماذا تريدين؟
-أنا الحمامةُ الزرقاء.. أريدُ نصيحتَك يا عمران.
-لا أريدُ أيةَ نصيحة!
-لا بدّ أن تسمعني.. (مَنْ يتفاخرْ بقوةِ عضلاته يضعفْ عقلُه وقلبُه).
فيغصبُ عمران ويقذفُ الحمامة الزرقاء بحجر فتطيرُ حزينة نحو الغابة..
وصل عمران إلى البيت فوجد أمّه وإخوته بانتظاره.. سألته أمّه بلهفة عن النتيجة فأجابها دون مبالاة.
-لقد رسبت.
-لماذا يا بني؟
-لأن الجميع يكرهني..
-ولماذا يكرهونك؟
-لأني أقوى منهم جميعاً.
-وماذا ستعمل؟
-سأترك المدرسة.
فغادرت أم عمران البيت حزينةً بينما طلب عمران من أخته الكبرى أن تضع لـه الطعام بسرعة.
وفي أحد الأيام بينما كان الأطفال يلعبون في الساحة اقترب منهم بهدوء طفل غريب باسم الثغر بسيط الثياب.. حيّاهم بلطف.. توقّفوا عن اللعب ونظروا إليه بدهشة فهم يرونه لأول مرة. تشجّع طارق وسأله:
-من أنت؟!
-أنا (رائد) وصلتُ مع أسرتي مساءَ البارحة إلى بلدتكم الجميلة.
قالت ليلى:
-هل تنوون الإقامة هنا؟
-نعم.. أبي بنّاءٌ ماهر وقد أحبَّ السكنَ في بلدتكم الجميلة.
قال أسامة فرحاً:
-أهلاً وسهلاً بكم في بلدتنا (زهر البيلسان).
-أتقبلونني صديقاً لكم؟
نظر الأطفال بعضهم إلى بعض وهمّوا بأن يقولوا لـه نعم، لكنّ صوتاً قوياً هدرَ خلفَهم:
-كلا.. نحن لا نقبل صداقة الغرباء.
التفت الجميع نحو مصدر الصوت فشاهدوا عمران قادماً وهو يحمل قطّاً مسكيناً من ذيله ويستمتع بموائه الحزين، نظر عمران باستهزاء إلى رائد ثم دار حوله يقرّب القط البائسَ من وجهه فبقي رائد صامتاً لا يرفُّ لـه جفن لكنّ الابتسامة الجميلة غابتْ من محياه..
قهقه عمران وصرخ:
-انظروا إلى صديقكم كيف خاف من قطٍّ صغير.
-وهل تعذيب الضعفاء شجاعة؟!
قال رائد وهو ينظر بهدوء إلى عمران الذي غضب وقذف القط بعيداً ثم تأهبَ للعراك:
-إذا كنت شجاعاً حقاً فهيّا صارعني.
-أريد الصداقة والمحبة.. لا أريد الشجار.
-أنت جبان إذن!
-سامحك الله.
ثم انصرف رائد ومضى يغادر الساحة لكن عمران أسرع خلفه واعترض طريقه:
-لن أسمح لك بالذهاب حتى أهزمك أمام الجميع.
كتم رائدٌ غضبه وتابع سيره لكنّ يد عمران الضخمة انقضّتْ على كتفه وشدّته بعنفٍ إلى الخلفِ فاستدار رائد ونارُ الغضب تلتهب في عينيه وفي لمح البرق انهال على عمران بعدة ضربات قوية جعلته يصرخ من الألم ويتراجع مذهولاً من المفاجأة، ثم تمالكَ نفسَه واندفع هائجاً شاتماً نحو رائد الذي انحرفَ ببراعة عن طريقه ودفعه نحو الأمام من ظهره فهوى عمران على الأرض كجذع شجرة يابسة، فنهض خجلاً أشعث الشعر مغبر اليدين والوجه والثياب وغادر الساحة يركضُ على غير هدى، وأخيراً وجد نفسه قربَ الغابة فجلسَ فوق إحدى الصخور يفكّر في الانتقام والثأر من رائد الذي جعله سخرية أمام الأطفال.. فجأة حطّ غرابٌ فاحمُ اللون أصفرُ العينين والساقين على غُصنِ شجرةٍ يابسة ونعق
-قاق.. قاق.. قاق.. أتريد الانتقام يا عمران؟
-نعم.. نعم.. كيف؟
-اذهبْ بسرعة.. واطلب مساعدةَ الساحرة شوكيّة!
-وهل ستمنحني القوة التي أريد؟
-طبعاً.. إذا نفذت لها ما تريد!
-وكيف أصل إليها؟
-اسلك هذا الدرب الشوكيّ المظلم.
نعق الغراب وطار بعيداً واختفى في أعماق الغابة.
نهض عمران واتجه نحو الدرب الشوكي يحلم بالقوة وهزيمة رائد.. لكنه سمع صوت الحمامة الزرقاء تناديه:
-عمران.. عمران.. لا تسلكْ طريق الشرّ يا عمران.
-اسكتي أيتها الحمامة الغبية!
-ستخسر نفسك يا عمران.
-بل سأربح القوة.
والتقط حجراً رمى به الحمامة التي رفرفت حزينة فوق الأشجار العالية. دخل عمران الدرب الشوكي فخيم الظلام فجأة وأخذت الأشواك تمدّ إبرها نحوه لكنّه تابع السير يأتيه صوت الغراب الأسود يحثّه على السير بين الحين والآخر. أخيراً وصل إلى كهف الساحرة (شوكية).
كان يقع في تجويف صخور سوداء تعشش بينها الخفافيش والعناكب، أما باب الكهف فقد كان مصنوعاً من جلود تماسيح وأفاعٍ، وفي أعلى الباب عُلقّ رأس ثعلب عجوز لـه عينان ماكرتان.
دقّ عمران الباب وانتظر بخوف فأطلت (شوكية) من فتحة في أعلى الباب بشعرها الرمادي وأنفها المعقوف كمنقار نسر عجوز. صرخت الساحرة:
-مَنْ أنت.. وماذا تريد؟
-أنا عمران.. أريدُك أن تمنحيني قوةً كبيرةً يا شوكيّة.
-سأمنحك قوة ثور برّي.. ولكن على شرط
-ما هو؟!
-أعطني قلبك أولاً.
-وكيف أعطيك قلبي؟
-لا تفكر إلا بنفسك ولا تحزنْ أبداً عندما يحزنُ الناس.. ما رأيك؟
تردد عمران قليلاً ولكنّه حينَ تذكّر هزيمتَه أمامَ رائد وبأنه سينتقم ويغدو أقوى الجميع أجاب الساحرة بحماس:
-لقد رضيتُ هاتي قوة الثور البرّي بسرعة.
قهقهت شوكية فرحة ثم دخلتْ الكهف وأحضرَتْ لعمران كأساً رُسم عليه ثور برّي لـه قرنان كبيران وفي الكأس شراب كريه الرائحة يتصاعد منه بخار أحمر.. قدّمت شوكية الشراب لعمران بيد طويلة الأظافر.
-هيّا اشرب أيها الصبي حتى تصبح أقوى الجميع.
شرب عمران الكأس بصعوبة وشوكية تشجعه وحين انتهى من آخر قطرة أحسّ بحرارة في جسده وانتفاخ في عضلاته، كما شعر بأنّ رأسه يكبر وتبرز على جانبيه عظمتان تمنّى أن ينطح بهما شيئاً ما وحين لمح جدار الكهف راح ينطحه وشوكية تنظر إليه فرحة ثم دخلت كهفها تضحك وطلبت منه أن يغادر المكان قبل حلول الظلام، فأسرع عمران يجتازُ الدربَ الشائكَ المظلم.
وصل البلدة قبيل المغرب، بحث عن الأطفال في الساحة فلم يجدهم غضب لأنهم قد غادروا إلى بيوتهم. عاد إلى البيت وحين دخله وجد أمه وإخوته يعملون معاً في صنع طبق جميل من القش عليه رسوم زهور وعصافير.. نظر الجميع إليه بدهشة.. قالت الأم:
-ما بك يا عمران؟!.. هل أنت مريض؟
-كلا.. أنا في أحسن حال.
-تعال وساعدْنا في صنع هذا الطبق.
-أنا لا أساعد أحداً..
-هل أنت متعب؟!
-كلا.. أنا جائع أريد الطعام حالاً.
تناول عمران الطعام وحدَه ثم نام بسرعة وهو يحلم بأنه سيهزم رائداً ويرميه على الأرض. وسوف يصفّق لـه المتفرّجون ويهتفون باسمه والتفتَ عمران إلى المتفرجين فشاهد مجموعة من الثيران الضخمة تخور وتصفّق لـه بأظلافها وتلوّح برؤوسها الضخمة وأذنابها.. ثم حمله أكبرها وراح يطوف به في أرجاء الساحة رماه على الأرض وسرعان ما هاجمته الثيران بقرونها.. استيقظ عمران يصرخ خائفاً فأسرعت أمه نحوه ولكنها تراجعت مذعورة حين شاهدت رأسه الضخم.
-رأسك يا بني!
-ما به؟!
-إنه كبير ويشبه رأس..
-لا يهم.. أنا أقوى الأطفال وسيخافني الجميع.
-ماذا فعلت بنفسك؟
-يكفي.. أنا جائع جداً.
-انتظر حتى تفطر مع إخوتك.
-لن أنتظر أحداً.
وبعد أن التهم عمران وحدَه طعام الإفطار بشراهة. واستعدّ للخروج نادته أمه:
-إلى أين تذهب يا بني؟
-لدي عمل هام.
-ألن تذهب معنا لزيارة خالك المريض؟
-أنا مشغول.
لم يجد عمران الأطفال في ساحة القرية أو شوارعها بل وجدهم قرب أحد البساتين يبنون كوخاً صغيراً من الحجارة والأغصان اليابسة وهم في سعادة وسرور، فانقضّ على البيت بسرعة وأخذ ينطحه ويرفسه فتهدّمت جدرانه وانهار سقفه ثم صرخ بصوت يشبه خوار الثور:
-رائد.. أيها الجبان تعال وصارعني!
-ألم يكفك درس البارحة؟
-بل أنا الذي سألقنك درساً لن تنساه طوال حياتك.
تهيأ الاثنان للصراع وتحلّق الأطفال حولهما ينظرون بخوف ودهشة إلى رأس عمران الضخم.
ضرب عمران الأرض بقدمه يثير الغبار والحصى كما يفعل ثور المصارعة، ثم اندفع برأسه الضخم نحو رائد الذي تلقاه بشجاعة وثبات ثم قفز بمهارة أمامه ماداً قدمه في طريق عمران فاختل توازنه وهوى متدحرجاً على الأرض ووقع هائجاً يشتم ويصرخ وقد أعماه الغضب تماماً، ثم هاجم من جديد ولكنه فشل ثانية وتلقى سيلاً من الضربات الموجعة ألقته أخيراً على الأرض خائراً مهزوماً وتعفّر جسده وثيابه بالتراب وتمدد على الأرض يئن من الألم، اقترب الأطفال منه يريدون مساعدته لكنه نظر إليهم بحقد ونهض يركض نحو الغابة لا يلتفت إلى شيء. وهناك عند طرف الغابة سمع صوت الحمامة يناديه:
-عمران.. عمران.. لا تعُدْ إلى الساحرة الشريرة..
لم يأبه عمران لنداء الحمامة الزرقاء بل تابع جريه نحو الدرب الشوكي المظلم.. طارت الحمامة خلفه تناديه متوسّلة كي يعود.. فتوقف غاضباً ورماها بحجر وأقسم بأنه سيصيدها يوماً وينتف ريشها ويشويها ثم اخترق الغابة يركض في الدرب الشوكي غير مهتم بالأشواك التي تجرّح جسده. وصل كهفَ الساحرةِ وقرعَ الباب بعنف وغضب.. مدّت الساحرة رأسها ذي الأنف المعقوف وصرخت:
-ماذا تريد؟
-خدعتني أيتها الماكرة.. لقد هُزمت من جديد.
-لكني أعطيتك قوة ثور بري!
-لم تنفع في شيء.. أريد قوة أكبر.. أكبر..
-اسمعْ.. سأمنحُك قوّةَ دبّ الجبل وذئب الوادي.. ما رأيك؟
-وهل سأتغلّب على عدوي؟
-طبعاً.. طبعاً..
-أسرعي أرجوك.
-أعطني روحك بسرعة.
-روحي.. كيف؟!
-الأمر بسيط.. لا تساعدْ أحداً... واكره جميع الناس.. ما رأيك؟
تردد عمران ثانية في قبول شروط الساحرة ولكنْ حين نظر إلى ثيابه المعفّرة بالتراب وتذكّرَ هزيمته المنكرة أمام الأطفال أجاب:
-لقد رضيت أيتها الساحرة.. أسرعي وهاتي شراب دبّ الجبل وذئب الوادي.
ضحكت شوكية ضحكة المنتصر ثم أحضرت كوبين يتصاعد منهما بخار أصفر كريه الرائحة رُسم على الأول صورةُ دبّ مفترس وعلى الثاني صورة ذئب غادر مكشّر عن أنيابه.. صرخت الساحرة:
-اشرب بسرعة.. اشرب..
تراجع عمران خائفاً ثم تشجّع حين تذكّر أنه سيمتلكُ قوةَ دبّ الجبل وشراسة ذئب الوادي فأغمض عينيه وشرب سائل الكوبين بصعوبة، فانتشرت نارٌ حارة في جسده وبدأ شعر أسود خشن يخرج من مسامات جلده كما طالت أسنانه حتى برزت من فمه، وسيطرت عليه روح شريرة تأمره أن يحطّم كل شيء.. أغلقت الساحرة الباب هاربةً وهي تضحك كما نعقت الغربان وطارت الخفافيش تحوّم حوله. أسرع عمران عائداً من حيث أتى وهو متشوق للعراك والشجار كمارد مجنون.. وصل أخيراً حيث يلعب الأطفال فوجدهم يعيدون بناء البيت الصغير الذي هدّمه وهم يتعاونون على نقل حجر كبير.. فصرخ بصوت وحشي:
-هيّا إلى العراك أيّها البنّاء الجبان!
توقف الأطفال عن العمل ونظروا بذعر إلى عمران فتقدّم نحوهم يطلق صرخات مفزعة.. برز رائد لقتال عمران وسرعان ما انضمّ الجميع للقتال وتحلّقوا حول عمران كسوار من فولاذ.. فزأر وعوى وكشر عن أنيابه ولكنّ هذا لم ينفعه في تفريق الأطفال أو إبعادهم بل رفعوا قبضاتهم القوية وتقدّموا نحوه فصمت وشعر بالخوف يتسلّل إلى قلبه فتراجع شيئاً فشيئاً ثم أدار ظهره هارباً نحو بيته يجري في شوارع البلدة، وحين شاهده الناس صرخوا.. الوحش.. الوحش.. اقتلوا الوحش.. ثم هاجموه بالعصي والفؤوس والحجارة فأسرع هارباً من مكان إلى مكان تلاحقه الجموع، ودمعتْ عيناه عندما رأى إخوته وأمه بين الجموع المطارِدة.. إنهم لم يعرفوه إذن.. ولكن كيف يعرفونه وله هذا الشكل القبيح؟
كانت الغابة ملجأه الأخير، فدخلها واختبأ بين أشجارها الكثيفة يراقب بهلع الجموع الغاضبة وهي تبحث عنه.. لقد أصبح الجميع يكرهه ويتمنّى موته حتى أهله وإخوته ولكنهم لا يعرفونه ولا يجرؤ على مناداتهم.. انسحب أهالي البلدة أخيراً عائدين بعد أن يئسوا من العثور عليه وعمّ الغابة سكونٌ مخيف.. شعر عمران بالعطش فخرج من مخبئه يبحث بهدوء عن الماء. وصل إلى ساقية يجري ماؤها بصفاء بين الأشجار فانكبّ عليها ليروي ظمأه لكنه تراجع خائفاً حين لمح وحشاً مخيفاً يرتسم أمامه على صفحة الماء. صبر قليلاً واختار مكاناً آخر لشربه لكن وجه الوحش برز لـه من جديد. أمعن النظر قليلاً فتأكّد أنه يرى صورته منعكسة على الماء فبكى بألم وصرخ.. ماذا حدث؟ وجاءه الجواب على لسان الحمامة الزرقاء التي وقفت فوقه على أحد الأغصان.
-لقد أصبحت وحشاً يا عمران!
-أخبريني.. لماذا؟
-لأنك قدّمت قلبك وروحك للساحرة الشريرة.
فأطرق عمران خجلاً.. وسأل الحمامة بصدق:
-ماذا سأفعل؟ أرجوك أنقذيني!
-اتبعني يا عمران.
طارت الحمامة ترشده في طرقات الغابة ومضى يركض خلفها محتملاً ألم الأغصان التي تلطم وجهه والحجارة التي تدمي قدميه.. ركض.. ركض ثم توقف يلهث.. رفرفت الحمامة فوقه:
-ما بك؟
-لقد تعبت.
-تابعِ الجريَ إذا كنت تريد الخلاص.
تحامل عمران على نفسه وتابع الركض خلف الحمامة الزرقاء وأخيراً انكشفتْ أشجار الغابة عن سهل واسع تتوسطه بحيرة رائقة تضحك الشمس فوق أمواجها الهادئة الزرقاء.. حطّت الحمامة قرب البحيرة ثم توارتْ خلفَ أعشابٍ ونباتاتٍ كثيفة.. غابتْ قليلاً ثم خرجت وقد انقلبت إلى فتاةٍ ساحرة الجمال ترتدي ثوباً طويلاً رسمت عليه أحلى الأزهار. تأمّل عمران الفتاة بدهشة:
-مَنْ أنت؟!
-أنا الحمامة الزرقاء.. أميرة هذه البحيرة.
-ولماذا جئت بي إلى هنا؟
-حتى تصبح إنساناً خيّراً يحبّك الناس وتحبُّهم..
-كيف؟
-اخلع ثيابك ثم اسبحْ في هذه البحيرة حتى الشاطئ الآخر وابحث هناك عن أزهار الصداقة.. اجمع باقة منها وعد بها إلى هنا قبل مغيب الشمس.
-وكيف سأعرفها؟
-رائحتها الزكية ترشدك إليها.
قذف عمران بنفسه في مياه البحيرة وأخذ يسبح بحماسة أحس ببرودة الماء ترعش جسده لكنه تابع السباحة بإصرار ترافقه أسماك صغيرة ذهبية اللون حتى وصل مجهداً إلى الشاطئ فاستقبلته هناك عصافير ملونة أخذت تغرد فرحةً بقدومه فنسي تعبه وندم كثيراً لأنه كان يصيد بقسوة هذه المخلوقات الجميلة اللطيفة. تجوّل يبحث عن أزهار الصداقة هنا وهناك فلم يجد سوى الحصى والصخور والأعشاب البحرية والرمال.. بحث طويلاً حتى كاد ييئس ونظر بخوف إلى الشمس التي أخذت تميل نحو الأفق الغربي.. أين تلك الأزهار؟ تذكّر قول الأميرة: (رائحتها الزكية ترشدك إليها). فجأة هبَّتْ نسمة خفيفة تحمل إليه رائحة شذية لم يعهدها في حياته.. بحث بلهفة عن مصدر الرائحة الساحرة فشاهد زهرة صغيرة حمراء تمدّ تاجها بصعوبة من خلال كومة من الصخور المتراكمة فوقها فأسرع يزيح الصخور عنها وكلما أزاح صخرة انكشفت تحتها مجموعةٌ من الأزهار الحمراء ولما انتهى من إزاحة الصخور وقف يتأمل المشهد البديع لتلك الأزهار التي أخذت تتمايل بأعناقها مرسلةً أحلى عطر في الفضاء فينساب إلى قلب عمران الذي عاد يخفق بشدة مشتاقاً إلى أمه وإخوته وتمنّى في هذه اللحظة الساحرة أن يعانق رفاقه جميعاً كما أحسّ بروحه تطير نحو أعالي الأشجار والغيوم وتشارك الطيور فرحتها بهذا الفضاء الواسع الجميل.. قطف عمران باقة من أزهار الصداقة وحملها ثم عاد يسبح بلهفة نحو أميرة البحيرة وحين وصلّ إلى الشاطئ استقبلته الأميرة بابتسامة عذبة وقالت لـه مبشّرة:
-عمران.. انظر إلى جسدك!
نظر عمران إلى جسده فوجد أنه قد عاد سليماً كما كان وحين نظر إلى وجهه في مياه البحيرة رأى أن الملامح الوحشية قد اختفت وعاد وجهه صافياً مشرقاً تزينه ابتسامة عذبة يراها لأول مرّة.
شكر عمران بحرارة أميرة البحيرة وقدّم إليها زهرة صداقة ثم طلب منها أن تسمحَ لـه بالعودة إلى البلدة فقالت:
-أسرع واسلك هذه الجهة من الغابة.
-وماذا أفعل إذا أضعتُ الطريق؟
-لا تخفْ.. أزهارُ الصداقة سوف ترشدك.
مالت الأزهار بأعناقها النحيلة الخضراء حيث أشارَتْ الأميرة فانطلق عمران عائداً يخترق الغابة وحين يفقد الاتجاه الصحيح كان يقرّبُ الأزهار من صدره فتميل بتيجانها حيث الطريق الصحيح.. وأخيراً وجد نفسه يخرج من الغابة أسرع يبحث عن رفاقه فوجدهم يتابعون بناء الكوخ الصغير وهم يحاولون حملَ حجر ثقيل ليجعلوه سقفاً للباب. لمحته خولة فصرخت في رفاقها محذرة:
-انتبهوا... عمران قادم!
ألقى الأطفال الحجر من أيديهم وتأمّلوا عمران وهو يقترب منهم باسماً قال مازن:
-أمر غريب.. إنه يحمل باقة زهر جميلة ويبتسم أيضاً..
وصل عمران إليهم تأمّلهم بحبّ ثم مدّ يده وصافح رائداً وعانقه ثم قدّم إليه زهرة حمراء والجميع ينظر إليه بعجب ودهشة.. قالت ليلى وهي تتناول منه الزهرة الجميلة:
-هل أنت عمران حقاً؟!
-طبعاً أنا عمران!
-وعمران الذي كان يشبه الوحش؟
-لقد اختفى في الغابة.
تابع عمران توزيع بقية الأزهار على الأطفال فانتشر شذاها يملأ النفوس بالمحبّة والصفاء. ثم اتجه نحو الصخرة الكبيرة وسأل رفاقه:
-هل تسمحون لي بمساعدتكم في بناء البيت؟
صاح الأطفال جميعاً:
-بكل سرور..
امتدّتْ أيدي الأصدقاء نحو الصخرة وحملوها ثم ثبّتوها في مكانها بأعلى الباب وتابعوا عملهم فرحين وهم يغنّون ويضحكون وقبل مغيب الشمس كان البيت الصغير جاهزاً ليسكن فيه الجميع.
... وأنتم يا أطفال إذا شعرتهم أنكم تتصرفون بقسوة ووحشية تجاه أهلكم وأصدقائكم فاذهبوا بسرعة واسبحوا في البحيرة الزرقاء واجلبوا أزهار الصداقة واستنشقوا عطرها... إنها موجودة.. اسألوا عنها آباءَكم وأمهاتكم ومعلميكم.