في كل مرة
تسلك الغيـمـة الـكـبـيرة الملونة - بالأبيض ، والرصاصي ، والبني ، والأسود
… - الممتلئة بالماء الغزير ، طريقها ، في سفرها الطويل في دروب الهواء
العالي ، و هـي تنظر من علوٍ شاهقٍ فترى أرضاً صغيرةً صفراء ، تحدق بها
بعيونها التي تشبه النجوم ، فلا ترى فيها لا حشرات تتسلق ، و لا حيوانات
تركض ، و لا أناس يعيشون ، ولا شيء يتحرك ....... لا شيء !
تتابع الغيمة طريقها ، كالعادة ، مخلفة هذه الأرض ، ولكنها تلتفت إليها ، و
تلتفت و تفكر بها حتى تغيب ، وتسأل نفسها : لماذا لا توجد حياة بها ؟ حتى
الأعشاب و الأشجار لا أثر لها !
- هل هي نائمة هذه الأرض ؟!
هكذا تقول الغيمة في كل مرةٍ تسافر عابرة فوق الأرض القاحلة ..
و هكذا قالت الغيمة ، في المرة الأخيرة ، و هي تعبر منحدراً ضيقاً في وادي
السماء العالي !
- سوف أوقظها !
أكدت الغيمة لنفسها ، وهي ترى الأرض النائمة تختفي خلفها .
* * *
مرّ دهر طويل ، كانت الغيمة قد سلكت فيه الكثير من الطرق الطويلة، في شرق
الأرض و غربها ، ورأت دروباً يانعة ، وأخرى يابسة ، غنية وفقيرة ، دروباً
صغيرة ، و أخرى كبيرة ، رأت الأنيس والموحش ، النظيف والموحل ، حتى خالت
نفسها تعرف طرق الدنيا كلها ، ولكنها ترى دروباً جديدة في كل رحلة ، و كانت
تهمس لنفسها بالقول :
- هل هي طرق جديدة بالفعل تنشأ دوماً ، أم أن خيالي هو من يرى ذلك ؟!
و تمضي دون أن تمعن النظر في السؤال ، أو حتى تبحث عن إجابةٍ له .
* * *
الآن : و الغيمة ترى الأرض الصفراء تتمدد تحتها ، هناك في الأسفل ، دون
حراك .. في هذا الوقت ، حيث تصفرّ حتى أشعة الشمس ، وهي تكاد تغرب ، تشعر
الغيمة بالغيظ ، وتفكر بصوتها الراعد :
- هذه أرض كسلى ، لا تشبع من النوم !
وتـتـساءل :
- ماذا لو كانت أرضاً ميتة ؟!
غير أن هذا الخاطر لم يلبث طويلاً ، إذ في الوقت الذي بدأت فيه الشمس تلملم
لونها الأصفر من فوق الأرض ، وتـنثر لوناً داكناً يزحف رويداً رويداً نحو
السمرة والسواد حتى يغطي الأشياء .. و في الوقت الذي حجبت فيه الغيمة وجه
النجوم ، و هي تحطّ أحمالها مقررة تنفيذ خطتها في ظلام الليل ، و في هذه
الليلة بالذات !!
في هذا الوقت بالذات :
بعد أن تمكن الليل من ألوان النهار ، و استطاع أن يجمعها كلها في كيسه
الكبير :
( تمّ كل ذلك بشكل ماكرٍ و بهدوء شديد : بدأ الليل ينفث لوناً رصاصياً
ماداً إياه باتجاه النهار ، حتى يختلط بالأبيض ، ثم يزيد كميته حتى يصبح
رمادياً - تساعده الرياح في ذلك - ثم تزداد كمية الرمادي حتى يتحول إلى
الفاحم فالأسود ، في هذا الوقت تكون ألوان النهار ، قد انخدعت بلعبة الرياح
التي تتغنى لها ، و تنشد الأناشيد ، وبألوان الليل التي تتراقص لها ، و
تلتف من حولها ، وهي تسوقها إلى عباءة الليل : واسعة الفم ، حيث تسقط هناك
.. و يتم حبسها حتى ينهي الليل مكائده ، ويغفو ، فيثب عليه الصباح خانقاً
إياه ، فاتحاً فم الكيس …. تفر الأشعة من الفم الواسع ..وتأخذ بمطاردة
ألوان الليل ……… ) .
في هذا الوقت بالذات أخذت الغيمة… تهزّ رأسها ، و استعادت صفوَ تفكيرها ،
بعد أن انساقت لخواطر شتى .. الغيمة تقول :
- هذا هو الوقت المناسب لأوقظ هذه الأرض !
تضحك بسخرية وهي تقول :
- و إلى متى؟!!
تنظر إلى الأرض في سباتها ، هاهي تحتها الآن تغط بالسكون ، تحـوم حولها ،
الظلام يغطيها تماماً ، تقدح قليلاً من برقها ، فتلمع الأرض صفراء نائمة ،
تناديها ، لكنها لا تتحرك ، تبرق أكثر ، وترعد ، لكنّ هذه الأرض نائمة،
تبرق ، وتزمجر …حتى تتعب ، تأخذ عيونها الكبيرة الواسعة بالبكاء ، تسكب
كميات غزيرة من الدموع فوق الأرض ، تبكي الغيمة بحسرةٍ و أسى ، تبكي .
الأرض مازالت نائمة ، و الغيمة أفرغت ماء بكائها ، وتعبت ...، الغيمة تتعب ،
وتقرر الرحيل ، لقد يئست من هذه الأرض ، ولن تهدر وقتها، تأخذ أحمالها :
الألوان .. البروق .. الرعود.. الدموع المتبقية لها .. غضبها ..حماسها
..حبّها للأرض.. توقظ صديقتها الريح لتقود عربتها ، وتمضي في دروبها
الطويلة في الوديان العالية !!
* * *
الغيمة تسرع ، و تطير بكل ما أوتيت الريح من قوة حتى تصل النهار ، في
الديار الخضراء ، البعيدة ، المليئة بالناس والحركة والحياة .
* * *
هناك ، فوق هذه الأراضي الملونة الكثيرة في العالم : تنسى الغيمة الأرض
اليابسة الصفراء ، وتمضي في عملها الدائم : السفر الدائم الدائم ، والطويل
الطويل …
* * *
هاهي الغيمة الممتلئة بمياه أسفارها و أحزانها ، تنطوي على نفسها ، وتدخل
في تفكير طويل.. إن الريح التي ترافقها ترى ذلك واضحاً في محيّاها ، تلتفت
إليها وتقول :
- لم أتعود منك غير الرعد والبرق والمطر .. فما لك صامتة ؟
- أنت لم تدركي أننا ، ومنذ زمن طويل ، وبتجوالنا الدائم ، لم نرَ الأرض
الصغيرة الصفراء التي …
- أعرف ..أعرف : التي لا حشرات فيها تتسلق ، و لا حيوانات تركض ، و لا أناس
يعيشون ، ولا شيء يتحرك !
- نعم .. لم نرها منذ زمن !!
هكذا قالت الغيمة وهي تهز رأسها بحيرة .
- ولكننا مررنا من فوقها قبل قليل !
غضبت الغيمة ، و زمجرت برعد ٍ قائلة :
- لا تسخري مني أيتها الريح الخفيفة .. أنا لم أرها ..إنني أعرفها !
- لا ، لا أسخر ، لكنها اخضرّت من دموعك التي أمطرتها بها تلك الليلة ، لقد
نبتـت !!
كانت الغيمة غاضبة ، فلم تسمع ما قالته الريح : أرعدت مزمجرة ، و أبرقت
بلمعان ٍ شديد ، و انطلقت بعيداً عن الريح ، في مشوارها الطويل ، باحثة عن
الأرض الصغيرة الصفراء النائمة ، و هي تردد :
- سؤقظها .. سوف تستيقظ !!
من يومها ، و نحن نشاهد الغيمة تدور في الأعالي باحثة عن الأرض النائمة ،
في سفر دائم و طويل ، وعندما تتعب تهجع فوق أحد الجبال ، أو أحد الوديان ،
وتأخذ تلمع بالبرق ، وتنتحب بنشــيج مثل صوت الرعود !!