الشمس ترسل أشعتها الذهبية لتشع النور والدفء في كل مكان ومع
وصول أول هذه الأشعة إلي الأرض .. يخرج عم « حامد » لكي يصطاد … يحمل على
كتفه شباكه الكثيرة … يصل إلى النهر ويركب مركبه الراسي على الضفة الغربية
للنهر، يبسمل بسملته المعتادة ،بعدها يلقي بشباكه في النهر .. ثم ينتظر
قليلاً وبعدها يسحب الشباك مرة أخرى ممنياً نفسه بصيد وفير .. لكن يخيب
أمله وتخرج الشباك خاوية تماماً من أي نوع من أنواع الأسماك التي يزخر بها
النهر اللهم إلا قليلاً من صغار السمك الذي لا يصلح للبيع ،أو حتى للطعام
فيرده مرة أخرى للنهر علّه عندما يكبر يصطاده .. يكرر عم « حامد » محاولاته
في طرح الشباك وسحبها-يتذكر أبيه حينما قال له "يا بني الصيد مهنة الصبر
فتحلى به يرزقك الله" - لكن في كل مرة تخرج الشباك كما هي ليس بها إلا قليل
من صغار السمك .. انتصف النهار والحال كما هو الحال ففكر عم« حامد »في
إلقاء الشباك بالقرب من الشاطئ ويذهب ليتناول طعام (الغداء)ثم يعود إلى
شباكه لعل يجد بها شيئاً . في تلك الأثناء كان « مصطفى » يستعد ليواصل رحلة
صيده اليومية حيث أنه يصطاد الأسماك لكي يأكلها هو وأمه وأخوته أو يبيعها
ويشترى بثمنها طعاماً آخر .. فأبوه توفى منذ زمن وهو أكبر أخوته وكان يجب
عليه أن يترك مدرسته ويعمل حتى يستطيع أن ينفق على نفسه وأمه وأخوته … أبوه
لم يترك لهم شيئاً وهو لم يتعلم أي مهنة يستطيع من خلالها أن ينفق على
نفسه وأسرته كما أن المهن التي عمل بها بعد وفاة أبيه لم يفلح فيها؛ فلذلك
اتجه للصيد فهو هوايته منذ صغره وحبه الأثير. أخذ مصطفى سنارته وطعوم السمك
التي يصطاد بها وذهب إلي النهر وجلس في مكانه المفضل على حافة النهر بعدها
ألقى سنارته ، وعندما شعر بهزة في يده أسرع واخرج السنارة لكنه لم يجد بها
شيئاً. عاد وألقى السنارة مرة أخرى وإذا به يشعر بهزة عنيفة في يده فأخرج
السنارة على الفور فرأى مقدمة سمكة كبيرة جداً . حاول إخراج السمكة لكن
جسده الضئيل لم يساعده على إخراج السمكة وخاصة بعد أن رأى أن هناك خيوط
شباك ملقاة في النهر تعوقه هي الأخرى عن إخراج السمكة وعندما مال على حافة
النهر وحاول تخليص السمكة من خيوط الشباك هاجمه من الخلف صوت أجش قال له :-
- ماذا تفعل هنا يا فتي؟ وما هذا الذي أراه في يدك ؟! - إني أصطاد والتي
في يدي هذه سنارتي . توقف برهة وعاد يقول:- - أيوجد قانون يمنع الناس من
الصيد ؟ - حتى الآن لا يوجد لكن يوجد أناس أقوياء مثلي يبلعون أناس ضعفاء
مثلك . لوح صاحب الصوت الأجش بيده ناحية النهر وعاد يقول :- - مثل الأسماك
التي في النهر فإن كبيرها يأكل صغيرها . - لكن هناك قانون ،وهناك قضاة
وحكام فلسنا في غابة ، ولسنا كالأسماك بلا هوية لا تعرف إلا الماء وطناً
لها. - على رسلك يا فتي .. فأنت مازلت صغيراً على كل هذا . - صغير .. صغير
على ماذا أيها الرجل ؟ - أراك تعارضني وأنت فتي صغير .. اذهب يا بني لأمك
أنت بحاجة لكي تطعمك فتتها الشهية . السمكة تبدل نظرها بين الفتي والرجل
وتحاول الهروب من خيوط الشباك اللعينة التي تحكم قبضتها عليها . اغتاظ «
مصطفى » من الرجل ورد عليه بلهجة عنيفة :- - لم أعد صغيراً حتى تطعمني أمي
بيدها أو من فتتها . - حسناً … حسناً وماذا تريد مني الآن ؟ - أريد سمكتي
التي اصطدتها بسنارتي . إن أمي وأخوتي في انتظاري حتى أعود إليهم بما رزقنا
به الله لكى تمتلئ بطونهم الخاوية . - وإذا لم أعطك السمكة التي تزعم أنها
ملكك . ماذا ستفـ… ؟ قاطعه « مصطفى » قائلاً : - - لا تقل أني أزعم بل هي
ملكي بالفعل وسوف تعطيها لي شئت أو لم تشأ . - يا بنيّ تلك السمكة هي ملكي
وأنت وجدتها في شباكي فهل تريد أن تأخذ شيئاً ليس من حقك؟ بلغ الضيق
بالسمكة مداه وصرخت فيهما :- - خلصاني من هذا الأسر أما أن تتركاني أعود
لأولادي في النهر وتأخذاني وتريحاني أفضل من هذا العذاب الذي أنا فيه . نظر
الفتي إلى السمكة ثم عاود النظر إلى الرجل وقال :- - فلنذهب إلى قاضي
المدينة هو الوحيد الذي يستطيع أن يفصل بيننا ،وما سيحكم به سوف يسري على
كلينا . وافق عم « حامد » على فكرة الفتى ووافقت عليها أيضاً السمكة وذهبوا
جميعاً للقاضي لعرض المشكلة عليه وبعد أن وصلوا إلى "دار الحكم" طلب
القاضي منهم أن ينتظروا قليلاً حتى ينتهي من الفصل في إحدى القضايا
المنظورة أمامه . انتظروا … مر الوقت بطيئاً .. القلق يكاد يقتل الفتى ……
فأمه وأخواته ينتظرون عودته لهم بالطعام … الخوف يملأ قلب الفتى الصغير
فماذا لو لم يحكم له القاضي بأخذ السمكة ؟ إنها لطامة كبري سينام هو وأخوته
وأمه بدون طعام هذه الليلة مثلها مثل ليالي كثيرة مضت . استيقظ على صوت
الحاجب الصاخب وهو ينادى :- - قضية السمكة . دخل الفتى وعم « حامد » ومعهما
السمكة إلي ساحة القضاء التي يتوسطها رجل في العقد السادس من عمره … وجهه
كثير التجاعيد … تطل بعض الشعيرات البيضاء من أسفل عمامته الكبيرة … يرتدي
ملابس فاخرة مزركشة … بعد أن سمح للمتقاضيين بالمثول أمامه نظر إليهما في
عجب وقال :- - أني في عجب من أمركما فما هو الشيء الذي تنازعان عليه لكي
تأتيا إلى دار الحكم حتى نفصل لكما فيه . ثم نظر إلى الرجل وعاد يقول :-
-وأنا أري إنك رجل كبير والذي تقاضيه فتي صغير في عمر ابنك…!! حاول الرجل
أن يتكلم ليوضح للقاضي المشكلة وفي نفس الوقت حاول الفتى أن يتكلم أيضا لكن
الحديثين تداخلت كلماتهما في بعضهما البعض ولم يصل إلى أذن القاضي سوى
كلمات مشوشة فأمرهما بالسكوت ، وبعد برهة من الوقت أمر القاضي الرجل الكبير
بالحديث فقال عم « حامد » :- - سيدي القاضي .. أنا كما ترى صياد ، ورزقي
ورزق أولادي يعطيه الله لي يوماً بيوم ، واليوم خرجت كعادتي للصيد ، ولكني
لم اصطد شيئاً حتى موعد الغداء فكرت بيني وبين نفسي بأن ألقي الشباك وأذهب
لتناول طعام الغداء وأعود لكي أخرجها وأخرج ما فيها من أسماك فهي رزقي ورزق
أولادي .. لكن عندما عدت إلى النهر وجدت هذا الفتى يحاول أن يخرج تلك
السمكة ويخلصها من خيوط شباكي ، وعندما سألته لماذا تصطاد في هذه المنطقة
مع أن هناك علامات طافية على سطح الماء توضح أنه يوجد شباك ملقاة لشخص أخر …
لم يجبني وأصر على أخذ السمكة وعندما حاولت منعه قال لي لنحتكم إلي ( دار
الحكم ) وثقة مني يا سيدي في نزاهة حكمكم المشهود بها في طول البلاد وعرضها
أثرت اللجوء إليكم لتحكم بيننا . حمحم القاضي وقال : - مفهوم .. مفهوم .
ثم نظر إلى الفتي الصغير وقال له :- - وأنت أيها الفتى ماذا عنك وعن قصتك
؟!! رد الفتى بصوت حزين وقال :- - مولاي القاضي .. أنا أخ لأربعة أخوة غيري
، وأيضا عائل أسرتي كلها بعد أن مات أبي،ومرضت أمي .. ولم أجد أمامي بابًا
للرزق سوى الاصطياد لأنه كما ترى يا سيدي أنا فتي صغير ولم يشتد عودي بعد
وقد طفت بكثير من المهن والحرف ، ولكني لم أفلح في الالتحاق بأحد منها أو
تعلم أى صنعة أو حرفة تعيينني على تحمل المسئولية الملقاة على عاتقي وقد
عملت بنصيحة أمي بأن أتوجه إلى النهر لكي أصطاد وأن كل ما يرزقني به الله
هو رزقنا وكل ما قاله عم « حامد » هو كلام كله صحيح ، ولكن ليس له الحق في
أخذ السمكة … قاطعه القاضي بحزم وشدة :- - كيف .. كيف ليس له الحق في أخذ
السمكة وأنت تقول أن كلامه كله صحيح ؟ أليست هذه السمكة هي نفسها تلك
السمكة التي وجدتها في شباكه ؟!! رد الفتى في هدوء وثقة : - نعم إنها هي
السمكة نفسها ، ولكنّي أطلب من سيدي القاضي أن يفسح صدره لي ويسمعني جيداً .
نظر إليه القاضي باستغراب وقال :- - قل ما عندك .. فكلّى آذان صاغية . قال
الفتى :- - ذات مرة كنت أسير في الطريق وإذ بي أشعر بالعطش الشديد ؛
فانزويت ناحية إحدى القدر الموضوعة على جانب الطريق كي أروي عطشي منها وبعد
أن شربت ورويت عطشي وجدت تحت قدمي شيخ عجوز … ابتر القدمين ولا يستطيع
الوصول إلى كوب الماء لكي يملأه ويشرب منه وعندما رأيت عجزه الظاهر وعدم
قدرته على الوصول إلى كوب الماء الموجود أعلى القدر قمت بملء الكوب وأعطيته
ليشرب ، بعد أن فرغ من الشرب .. شكرني ودعا لي بالخير والسلامة؛ فقل لي يا
سيدي يا ترى لمن يكون أجر الثواب ؟ هل للذي وضع القدر وتعب في ملئه أم لي
أنا الذي سقى الشيخ العجوز؟ رد القاضي قائلاً :- - لك جزاء يا فتى ولصاحب
القدر جزاء ، ولكن قل لي أنت ما علاقة كل هذا الكلام بموضوع قضيتنا تلك ؟
رد الفتى مسرعاً :- -سيدي القاضي أنت تعلم أن النهر ملكاً للجميع وليس
حكراً على أحد وأن ما به من خيرات هي ملك للناس جميعاً وهذا النهر يشبه في
حكايتي الطريق الذي كنت أسير فيه ، والشباك التي ألقاها عمي « حامد » ما هي
إلا أداة لإخراج السمك من النهر وهي تشبه القدر في حكايتي الذي هو أداة
لتوفير قدر كبير من المياه للناس … قاطعه القاضي وقال له :- - والكوب ماذا
يمثل في حكايتك ؟! رد الفتى بنفس هدوئه وثقته :- - الكوب يا سيدي في حكايتي
يمثل السنارة التي بواسطتها استطعت أن أخرج هذه السمكة من النهر ولذا فإن
هذه السمكة هي ملكي أنا لأني الذي تعب في استخراج طعوم السمك وأيضاً الذي
تعب في إخراج السمكة من النهر. قال له القاضي:- - لكن في حكايتك كان الثواب
لك ولصاحب القدر فلماذا تريد أن تأخذ السمكة كلها لك فقط ؟ رد الفتى:- -
نحن أمامك يا سيدي وما تحكم به سوف يرضينا. نظر القاضي إلى الرجل وقال له
:- - ما رأيك ؟ رد الرجل في تردد :- -نحن أمامك يا سيدي وما تحكم به سوف
يرضينا. نظر القاضي إلى السمكة وقال لها :- - وما رأيك أنت ؟ قالت السمكة
:- - يا سيدي أنا في حيرة شديدة فكما ترى كل واحد فيهما له ظروفه القاسية
وأنا لا أستطيع أن أكون لأحد منهما على حساب الآخر فارجوا أن تأمر بعودتي
مرة أخرى إلى النهر حتى أرى زوجي وأولادي . ضحك القاضي ضحكة عالية وقال :- -
يا لك من سمكة شقية .. لقد حكمنا بأن تنصف السمكة نصفين .. نصف للرجل
والنصف الآخر للفتى . أُعجب الرجل بكلام الفتى « مصطفى » وتنازل له أمام
القاضي عن نصف السمكة وبعدها خرجا من دار الحكم متصافيين وتعاهدا على الود
والصداقة والتعاون بينهما