اشترى لي
أبي حذاءً جديدا صباح يوم 26 يوليو عام 1964، فلبسته وخرجت مع أفراد
الأسرة إلى السلسلة لنصطف مع الجماهير المصطفة بطريق الكورنيش الذي سيمر
منه الزعيم، ونصفق له، ونهتف باسمه عندما يمر موكبه المهيب احتفالا بذكرى
رحيل الملك على يخت المحروسة مغادرا الإسكندرية بعد ثورة 23 يوليو 1952.
قطعنا المسافة من حي محرم بك إلى السلسلة سيرا على الأقدام مع الجماهير
الغفيرة المتجهة إلى أماكن مختلفة على طول الكورنيش. شعرت ببعض الآلام
بمؤخرة القدمي اليمنى لكون الحذاء الأسود جديدا، ولما وصلنا إلى حيث الزحام
الشديد تخيرت مكانا ضيقا على سور الكورنيش قفزت إليه، ولما أحسست أن موكب
الزعيم قد تأخر بسبب هذا الزحام الشديد، خلعت حذائي الجديد اللامع، وحشرته
بجانبي بيني وبين الشخص المجاور لي. فجأة حدث هرج ومرج وقام الناس واشرأبت
أعناقهم إلى موكب الزعيم، ورفع الرجال أبناءهم الصغار عاليا. جرى أبي إلى
مكاني ليرفعني عاليا كي أرى الزعيم في الحقيقة، بعد أن كنت أرى صوره
الكثيرة في الجرائد والمجلات، بل أنه أرسل لي صورته الشخصية، بعد أن أرسلت
له خطابا أشرح فيه حبى الشديد له وإعجابي الكبير به. بعد أسبوع واحد وصلني
خطاب من رئاسة الجمهورية على عنوان مدرستي. قامت ناظرة المدرسة باستدعائي
من الفصل لتبلغني أن ديوان عام رئاسة الجمهورية أرسل لي خطابا، وطلبتْ أن
أفض المظروف الأزرق أمامها لترى ما بداخله. لم أكن أعرف مدى أهمية أن يصل
خطاب من ديوان رئاسة الجمهورية إلى أحد من تلاميذ المدرسة. فتحتُ المظروف
بناء على أوامر الأبلة الناظرة، فوجدت خطابا أزرق باسم حسن صبري الخولي،
أرفق به صورة للزعيم مبتسما كعادته، وبالرسالة ما يفيد أن الزعيم اطلع على
خطابي الذي أرسلته له، وأنه يهديني صورته. تنفست الأبلة الناظرة الصعداء،
بعد أن قرأت معي الخطاب، وفرحت معي بصورة الزعيم، ورأيتها تبتسم ـ في شموخ ـ
مثله. بعد أن انتشلني أبي من بين الواقفين المبهورين بشخصية الزعيم
الحقيقية الماثلة أمام عيونهم في موكبه الهادر، أحسست أن شيئا يسقط من
جانبي ويرتطم بالصخور الرابضة أسفل الكورنيش، ولكن لم أهتم بما سقط،
ويكفيني أن الزعيم الآن يمرُّ أمام عيوني. عندما لوحتُ للزعيم، وهتفت باسمه
كثيرا، وقلت له: بالروح بالدم .. تخيلت أنه سمعني ونظر لي وابتسم، وتخيلت
أنه عرف أنني ذلك التلميذ الذي أرسل له رسالة يطلب فيها صورة له، وأنني ذلك
التلميذ الذي كلف مدير مكتبه الخولي أن يرسل لي رسالة نيابة عنه. لذا
عندما رآني أهتف له، ابتسم لي ولوح بيد الزعامة العربية. أما فكرة أن يأمر
موكبه بالتوقف ثم أن يترجَّل ويشق كل هذا الزحام الجماهيري ويأتي إليَّ
ويصافحني، فقد كانت مستبعدة تماما، لأنني كنت ساعتها حافي القدمين، والزعيم
يعرف ذلك، لذا لم يشأ أن يترجل ليصافح طفلا حافي القدمين أمام جماهير مصر
الغفيرة، وجماهير الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، وأمام دول عدم
الانحياز، وشعوب العالم المحبة للسلام. بدأ موكب الزعيم يبتعد قليلا قليلا،
وأخذ الطوفان البشري يهدأ قليلا قليلا، وبدأ الناس ينفضون من حولنا رويدا
رويدا، فتلفت حولي وأنا على سور الكورنيش، فلم أجد إلا فردة واحدة من حذائي
الأسود الجديد، هي الفردة اليسرى، أما اليمنى فلم أجدها، فأخذت أبحث عنها
فوق كل حجر من أحجار الكورنيش، وفي الأماكن المحيطة بنا، وأنا في خوف وهلع
شديدين من معاقبة والدي على إهمالي. عندما قرر والدي أن نبدأ في المسير، لم
أذعن لأمره، فتلفت لي، وسألني: مالك؟ قلت له في خوف: فردة حذائي سقطت في
البحر. سألني: ليه؟ أجبته: لما شلتني لتحية الزعيم، وقعت الفردة في البحر.
على غير ما توقعته قال لي: علشان خاطر الزعيم بس حاسامحك النوبادي،
وحاشتريلك جزمة جديدة، ولكن على دخول المدارس. فكرت أن أكتب للزعيم أشرح له
الموقف، ولكن تراجعت خشية أن يظن أنني أشحذ منه ثمن حذاء جديد