نصرفنا من المدرسة، وعدنا إلى بيوتنا فرحين.. كنا مجموعة من الأطفال، نتحادث ونضحك ونقفز. وفي الطريق، شاهدْنا مجنوناً، قصيرَ القامة، أسمرَ البشرة، أشعثَ الشعر، يرتدي ثوباً بالياً، يكشف عن صدره..
تحلّقنا حوله، ننظر إليه بفضول، ونسخر من مظهره، بعبارات جارحة:
-انظروا إلى لعابه كيف يسيل!
-ما أبشعَ منظره!
-إنه يسير حافياً!
-ما أكرهَ رائحته!
-أظنُّ أنه لم يغتسل في حياته!
انفجرنا ضاحكين..
وظلّ المجنونُ صامتاً، يرمقنا مدهوشاً.. أقبلْنا عليه، نغيظه ونؤذيه..
نأتيه من بين يديه، ونأتيه من خلفه.. هذا يشدُّ شعرَهُ، وذاكَ ينتر ثوبه، وآخر يدفع ظهره، وهو يلتفت ذات اليمين، وذات الشمال، ولا يدري ماذا يفعل..
لم نكتفِ بذلك، بل أخذْنا نقذفه بالحصى، فهرول وراءنا، يصرخ متألّماً..
هرْبنا من وجهه، نركض أمامه، ونلتفت إليه.. وحينما وقف، عاودناهُ ثانية، فرماه طفلٌ، بحجر كبير، شجّ رأسَهُ، وأسال دمه، فقعد خائفاً، يمسح الجرح بكفّهِ، ويتأمّلُ يدَهُ الملطخة بالدماء، ثم يرفع بصره إلى السماء..
كففنا عن إيذائه، ووقفنا نتأمّلُهُ صامتين..
جاءتْ عجوزٌ، فقيرة طيّبة، وخاطبَتْنا معاتبة:
-لماذا تضربونه يا أبنائي؟!
-إنه مجنون!
-ولكنّهُ إنسانٌ مثلكم، يأْلمُ كما تألمون.
-ألا ترينَ شكَلهُ القبيح؟!
-يا أبنائي.. الشكل القبيحُ لا يعيبُ صاحبه، وإنَّما فعله القبيح.
نكسنا رؤوسنا خجلاً، ولم ننبس بكلمة واحدة.. وانحنتِ العجوز على المجنون، تمسح له وجهه وجرحه، ثم قبّلتْهُ بين عينيه، وسحبَتْهُ من يده، فمشى معها طائعاً، مثل حَمَلٍ وديع..
تركْتُ رفاقي واجمين، وسرْتُ وراءها، لأكشفَ سرّها.. استدارَتْ نحوي، فرأيتُ في عينيها الدموع..
قلت مستغرباً:
-أتبكينَ على هذا المجنون؟!
قالت بحنانٍ بالغ:
-إنه ابني!
-لا أكادُ أصدّقُ!
لماذا؟
-إنه.. مجنون!
قالت العجوز:
-وهل يولدُ المجنونُ بلا أمّ؟!
قلت متعجباً:
-لماذا لم تعاقبينا على ما فعلنا؟!
-ولمَ العقابُ يا بني؟!. ما زلتم صغاراً.
قلت نادماً حزيناً:
-إنني أعتذر إليكِ، فهل تقبلين اعتذاري؟
مدّتِ العجوزُ يدها، ومسحَتْ رأسي، براحتها الحانية، وقالت:
-لا تحزنْ يا صغيري، إنني أعذركَ وأسامحك.
ومضتِ الأمُّ الرؤوم، تسحب ابنها الحبيب إلى قلبها، وظللتُ واقفاً في مكاني، أرنو إليهما راحماً، وأقول في نفسي:
-ما أكثرَ الدروسَ التي نأخذها خارج جدران المدرسة!