لم يعرف أحد إلى أين توجهت رنا بعد أن خرجت من المخيم لأنه لم ينتبه إليها أحد. فالجميع مشغولون بما حدث في الصباح الباكر من اعتداء جنود الاحتلال على البيوت. لقد هجموا على الأبواب فحطموها، وعلى الرجال فساقوهم إلى الساحة... أما الفتيان فلم يتركوا منهم واحداً بل جروهم كلهم إلى السيارات العسكرية.
وصرخت النساء... وبكى الأطفال الصغار كما لو أن ناراً تحرقهم. وتعالت الأصوات من كل جانب عندما سدد جندي الرصاص على فتى رمى مجموعة الجنود بزجاجة حارقة. وقع انفجار، وتكاثر الدخان وارتمى الفتى قتيلاً.
رنا الصغيرة النحيلة كانت في الطابق العلوي في بيتهم المتهدم ورأت كل شيء... وبما أن الفتى القتيل كان ابن عمتها، وكانت تحبه كثيراً فقد قالت في نفسها:
ـ لماذا لاأختبئ وراء ذلك السور قريباً من السيارات العسكرية وأرمي جنود الاحتلال بالحجارة؟
ولم تشاور عمتها التي تعيش معها بعد أن ماتت أمها... ولم تشاور غيرها، فهي تدرك جيداً أنهم لن يمانعوا ماداموا جميعاً يجابهون الأعداء.
وبسرعة دخلت رنا إلى غرفتها الخالية من الأثاث ماعدا فراش واطئ، وصندوق تضع فيه ثيابها... بحثت عن معطفها الشتوي الطويل... ولما لم تجده نثرت كل أشياء الصندوق، ثم تذكرت أنهم وضعوه تحت الفراش ليغدو سميكاً.
سحبته بعنف وارتدته والطقس صيف... والحر شديد.
تسللت وراء البيوت وأخذت تجمع ما أمكنها من الحجارة، وتضعها في جيوب المعطف. ولما وجدت أنها لم تتسع لأكثر من عدد محدود، مزقت بطانة المعطف وحشته بالحجارة الصغيرة، ثم سارت متثاقلة وليس في قدمها إلا حذاء كبير مهترئ من البلاستيك تلبسه عمتها أثناء نشر الغسيل.
ولمح أحد الجنودبنتاً صغيرة تمشي ببطء كما لو أنها تسير فوق بيض. ارتعدت عندما تقدم منها، واصفرّ لونها. قال لها:
ـ إلى أين أنت ذاهبة ياقردة؟ ألا ترين أنه ممنوع المرور؟
ارتبكت رنا، ثم نظرت بعينين مذعورتين إلى نفسها، واستجمعت جرأتها وقالت:
ـ أنا مريضة... وذاهبة لعند خالتي قرب السور، لأنه لم يعد أحد في البيت.
تأملها الجندي، ثم قال:
ـ ولماذا هذا المعطف ونحن في عز الصيف؟
قالت:
ـ إنا بردانة... مصابة بالحمى..
ولم يكمل أسئلته حتى كانت قد بدأت تبتعد بخطوات ثابتة، متهيئة لأن تهرب لو حاول أن يقبض عليها. ولكنه أدار وجهه عنها وهو غير مطمئن تماماً، فهؤلاء السكان يملكون من الجرأة والذكاء مالم يكونوا يتصورونه هم المحتلون حاملو الحضارة كما يعتقدون، ممكن أن الطفلة مصابة بالحمى... أو بلوثة في عقلها. ممكن. فكر بهذا ثم انصرف عنها.
رنا لم تكن مصابة بالحمى.. ولا بلوثة في عقلها... لكنها حيلتها ضد عدوها وإلا قبض عليها وفعل بها مايفعلونه بغيرها. وإذا لم تقل ذلك فكيف تنجو منه، وتحقق غايتها؟
وصلت رنا إلى السور وسرعان مانزعت المعطف وأفرغت مافيه من الحجارة أمامها، وأخذت تقذفها حجراً حجراً، وكلما رمت واحداً خبأت رأسها لحظات، ثم رفعته بحذر حتى إذا لم تجد أحداً يراها قذفت الآخر... وهكذا.
كانت تقفز من الفرح، وتدلك يديها كلما أصاب الحجر جندياً، ولم تشعر إلا بيد كالحديد تقبض على عنقها، ثم تصفعها بقوة جعلت الدم ينفر من فمها.
كان ذلك الجندي الذي تركها تمر وقد اعتقد أنها مريضة وبردانة قال بغضب:
ـ أهذه أنت إذن.. مريضة وبردانة... وتذهبين إلى خالتك؟
هيا... سآخذك إلى جهنم أنت وخالتك... هناك أدفأ... ونخلص منكم. أين بيت خالتك؟
وتكورت رنا مثل قطة مدهوسة عندما أمرها الجندي أن تمشي أمامه... ماذا تفعل؟ لم يعد أمامها إلا الاستسلام. لكن رنا أمسكت بالمعطف... تظاهرت أنها تجمعه لتأخذه معها. انحنى الجندي ليبعدها عنه... رمته فوق رأسه، ثم التقطت الحجر الوحيد المتبقي على الأرض... وبينما كان يصرخ ويحاول التملص من المعطف كانت رنا قد اختفت بين البيوت قرب السور.
وعندما كان الجندي يسأل زملاءه: هل رأوا بنتاً صغيرة ترتدي معطفاً شتوياً طويلاً سميكاً؟ كانوا يهزؤون به ويقولون: هل هناك من يرتدي معطفاً في عز الصيف؟