تعلمين أن دية المرأة نصف دية الرجل، وتعرفين السبب بالتأكيد وهو: أن الدية ليست تقديراً لقيمة المقتول الإنسانية إنما هي تعويض مادي لا معنوي لأهل القتيل جزاء ما لحق بهم من ضرر مادي. ونظراً لأن الرجل هو المعيل والمنفق على الأسرة تضاعف ديته عن دية المرأة. فهل تعلمين ما يلي:
1 ـ هل تعلمين أن الدية لا تغني عن العقوبة الدنيوية شيئاً؟ فلابد من موت مَن تعمد القتل: «رضّ يهودي رأس جارية بين حجرين ... فلم يزل به النبي (ص) حتى أقره فرض رأسه بالحجارة». وهل تعلمين أن عقوبة القتل هذه نافذة في قتل الرجل والمرأة على السواء؟ فتقتل المرأة بالرجل، ويقتل الرجل بالمرأة مع أنها امرأة وهو رجل! قال بهذا أهل العلم ومنهم مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وأبو ثور، وذهب الجمهور إلى أنه يقتل الرجل بالمرأة، وقد بسط الشوكاني البحث في نيل الأوطار، وعلق الحافظ ابن حجر: «أراد بأهل العلم الجمهور، قال ابن المنذر: أجمعوا على أن الرجل يقتل بالمرأة»، وذلك لأن المسلمين ـ ذكوراً وإناثاً ـ سواء في الإنسانية ولهذا تتكافأ دماؤهم: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم، وهم على يد مَن سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، الا لا يقتل مؤمن بكافر».
وهل تعلمين ـ بمناسبة الكلام عن «القتل» ـ ما خصت به المرأة وما امتازت به عن الرجل (وإن كان هذا خارجاً عن موضوع الدية)؟ لقد كرم الإسلام المرأة ـ مشركة ومسلمة ـ وكان ذلك حين منع إهدار دمها، وأمر بعدم التعرض لها، إذ جاء النهي عن قتلها عند الغزو، قال بهذا مالك وأصحاب الرأي مستدلين بأحاديث منها: «وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله (ص) فنهى عن قتل النساء والصبيان»، وقال (ع): «لا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً ولا امرأة». وذلك لعظم حرمة دماء المسلمين والمسلمات، وإن قتل مسلم واحد (ظلماً وعدواناً) يعدل عند الله قتل الناس جميعاً: (مَن قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً) المائدة: 32. وقد بالغ الإسلام في حفظ حياة المرأة وإن كانت مشركة: «حتى قال مالك والأوزاعي: لا يجوز قتل النساء والصبيان بحال، حتى لو تترس أهل الحرب بالنساء والصبيان، أو تحصنوا بحصن أو سفينة وجعلوا معهم النساء والصبيان لم يجز رميهم ولا تحريقهم. وعلق محمد رشيد العويد على هذا بقوله: أليس للمرأة غير المسلمة، بعد هذا، أن تفخر على قومها بأنها سبب لحمايتهم وحفظهم؟ وإذا كان الإسلام يحفظ حياتها ويحميها، وهي غير مسلمة، فإنه أكثر حفظاً لها وحماية لحياتها وهي مسلمة».
2 ـ وهل تعلمين أن المرأة لا تكلف ـ مقابل تنصيف ديتها ـ بالمساهمة في أداء الدية إلى أهل القتيل، بل يكلف به العاقلة من الرجال، والغريب من هذا الحكم يسري ولو كانت هي القاتلة: «لا تدخل (المرأة) مع العاقلة فلا شيء عليها من الدية لو قتلت خطأ بخلاف الرجل فإن القاتل كأحدهم».
3 ـ وهل تعلمين أن المرأة التي أعفيت من أداء الدية تتشارك مع العاقلة في الإرث! فترث من دية قريبها المقتول.
4 ـ وهل تعلمين أنه لا توجد قيمة معينة موحدة للدية؟ وذلك لأنها ـ وكما مر ـ تعويض مادي، والتعويض المادي يقدر بقدره فتفرضه الظروف وتغيره أحوال الناس، وهذا ما قيل: «ومما يؤكد هذا المعنى أن قوانيننا الحاضرة جعلت للدية حداً أعلى وحداً أدنى، وتركت للقاضي تقدير الدية بما لا يقل عن الأدنى ولا يزيد عن الأعلى، وما ذلك إلا لتفسح المجال لتقدير الأضرار التي لحقت بالأسرة من خسارتها بالقتيل، وهي تتفاوت بين كثير من الناس ممن يعملون ويكدحون فكيف لا تتفاوت بين مَن يعمل وينفق على أسرته، وبين مَن يعمل ولا يكلف بالإنفاق على أحد، بل كان ممن ينفق عليه؟».
وهل تعلمين ماذا ينبني على تلك المقدمة؟ يتابع المؤلف السابق كلامه ليبين أمراً مهماً جداً: «أما في المجتمعات التي تقوم فلسفتها على عدم إعفاء المرأة من العمل لتعيل نفسها وتسهم في الإنفاق على بيتها وأطفالها، فإن من العدالة حينئذ أن تكون ديتها إذا قتلت معادلة على العموم لدية الرجل القتيل».
5 ـ وهل تعلمين ما توصل إليه الباحث مصطفى عيد الصياصنة، ومن ثم ألف كتاباً سماه «دية المرأة، في ضوء الكتاب والسنة (تمام دية المرأة، وتهافت دعوى التنصيف) »؟ لقد توصل هذا الباحث في الصفحة 145 وما بعدها إلى ما يلي: «من دراستنا الموسعة والمستفيضة، لمسألة دية المرأة في الكتاب والسنة، والآثار الواردة عن بعض أفراد الصحابة والتابعين، إضافة إلى معالجتنا لطبيعة دعوى الإجماع والقياس، بخصوص هذه المسألة، فإننا نستطيع القول ـ وبكل الاطمئنان والثقة ـ : إن دية المرأة على مثل دية الرجل سواء بسواء وذلك لتضافر الأدلة والمرجحات، التي تؤكد هذه الحقيقة، وهي مجموعة أدلة ومرجحات يمكن إجمالها في الآتي: (1) إن الآية التي أثبتت مشروعية الدية في القرآن الكريم، شملت بإجماع الفقهاء والمفسرين الرجل والمرأة على حد سواء، ولم تفرق بينهما بشيء: (ودية مسلمة إلى أهله) ... لم يثبت ـ في السنة المطهرة ـ حديث واحد صحيح صريح، يدل على تنصيف دية المرأة .. فقد احتجوا بحديث معاذ بن جبل (رض)، الذي يقول: «دية المرأة على النصف من دية الرجل»، وقد حكم العلماء بضعفه (وذكر حديثين آخرين ثم تابع)، فتبين من ذلك كله، أن قولهم بتنصيف دية المرأة، لا يعتمد على حديث صحيح بالمرة، وهذه كتب السنة بين أيديهم فإن وجدوا فيها حديثاً صحيحاً صريحاً ـ واحداً فقط ـ يقول بتنصيف دية المرأة، رجعنا إلى قولهم، وإن لم يجدوا ـ ونحن متأكدون أنهم لن يجدوا ـ فالحق أولى أن يتبع، والدليل أجدر وأحق أن يقتفى .. ليس في الآثار الواردة عن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، أثر واحد صحيح صريح، ينص على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل ... وقد وقفنا عليها واحداً واحداً، وعالجنا أسانيدها، ولمسنا ما هي عليه من الضعف والوهي، وما قاله العلماء المحققون في توهينها والحكم بردها .. فتبين لنا من ذلك كله، أن القول بتنصيف دية المرأة لا يعتمد ولو على أثر واحد صحيح منقول عن الصحابة، فكيف بعامتهم ينسب إليهم انهم قضوا بنحو ذلك؟! إن ادعاء الإجماع علي تنصيف دية المرأة، إنما هو مجرد دعوى لا أكثر، إذ هو منقوض بالآتي: أ ـ عدم وجود نقل صحيح ثابت عن حصول مثل هذا الإجماع، ومتى كان وممن كان؟؟ .. ب ـ تعذر إجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ـ بعد وفاة النبي (ص) وفي أواخر العصر الأول ـ على شيء من ذلك، لكثرتهم أولاً ولتفرقهم في الأمصار المتباعدة ثانياً، ولصعوبة الاتصال بهم ثالثاً .. لقد تبين لنا أنه لم يثبت عن بعض أفراد الصحابة أنهم قالوا بذلك، فكيف يمكن إذن أن يقال باجتماعهم جميعاً عليه؟؟.. ج ـ نقض دعوى انعقاد إجماع العلماء على تنصيف دية المرأة، بوجود المخالف، الذي يعتد بمخالفته، ويرجع إلى اجتهاده ... وابن حزم ومن ورائه المدرسة الظاهرية .. فقد قال هؤلاء بمساواة دية المرأة بدية الرجل في النفس والأعضاء ... إن الأحاديث الصحيحة التي وردت في الدية، إنما جاءت شاملة للرجال والنساء دون تمييز، وكذلك الأحاديث الواردة في الجراحات ... : «وفي النفس المؤمنة مئة من الإبل، وفي العين خمسون وفي اليد خمسون، وفي الرجل خمسون» ... فإذا كان الرجل يقتل بالمرأة، ويقاد بها عيناً بعين، وأذناً بأذن، وسناً بسن، ويقتص لها منه في كل الجراحات فما الذي يمنع من أن تكون ديتها كديته؟؟ ... قلت: ومن الغريب أن النصوص صريحة في عدم قتل المسلم بالكافر، وفيج عل دية الكافر الكتابي على النصف من دية المسلم، ومع ذلك لم يأخذوا بها وقالوا بخلافها، في حين لم يثبت حديث واحد صحيح يصرح بتنصيف دية المرأة، ومع ذلك تمسكوا بهذا القول ولا دليل معه».
وقد أكد القرضاوي ما توصل إليه هذا الباحث فقال: «وأما الدية فليس فيها حديث متفق على صحته، ولا إجماع مستيقن ... وإذا لم يصح حديث في القضية يحتج به، فكذلك لم يثبت فيها إجماع ... بل ذهب ابن علية والأصم ـ من فقهاء السلف ـ إلى التسوية بين الرجل والمرأة في الدية، وهو الذي يتفق مع عموم النصوص القرآنية والنبوية الصحيحة وإطلاقها. ولو ذهب إلى ذلك ذاهب اليوم، ما كان عليه من حرج ... وهو ما ذهب إليه شيخنا الشيخ محمود شلتوت في كتابه «الإسلام عقيدة وشريعة». قال تحت عنوان «دية الرجل والمرأة سواء»: «وإذا كانت إنسانية المرأة من إنسانية الرجل، ودمعها من دمه، والرجل من المرأة والمرأة من الرجل، وكان «القصاص» هو الحكم بينهما في الاعتداء على النفس، وكانت جهنم والخلود فيها، وغضب الله ولعنته، هو الجزاء الأخروي في قتل الرجل، فإن الآية في قتل المرأة خطأ، هي الآية في قتل الرجل خطأ. ونحن ما دمنا نستقي الأحكام أولاً من القرآن، فعبارة القرآن في الدية عامة مطلقة لم تخص الرجل بشيء منها عن المرأة: (ومَن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله) النساء: 92. وهو واضح في أنه لا فرق في وجوب الدية بالقتل الخطأ بين الذكر والأنثى».
6 ـ ولكن هل تعلمين أهم شيء في الأمر كله؟: إن تنصيف دية المرأة لا ينصف أجرها، ولا ينقص من حسناتها شيئاً، ولا يقلل من ثوابها مثقال ذرة عن ثواب الرجل في مثل وضعها وظروفها (أي عندما تقتل)، فهي شهيدة إن ماتت دون نفسها أو مالها ... ولها ثواب وأجر الشهادة كاملاً كالرجل سواء بسواء، ولها منزلة الشهيد في الجنة ولها ما وعد به من الدرجات والمغفرة ...
فهل ترين بعد هذا في قضية «الدية» ظلماً أو هضماً؟!