ولذا يضيف بعض أهل العلم علة أخرى ليكون مناط التحريم علة مكونة من وصفين هما الدوام وإرادة التحسين به واستشهد لذلك بما جاء في الحديث المتقدّم ( المتفلجات للحسن ) .
والحقيقة أن جعل التحسين مناطًا للتحريم والمنع غير مناسب ؛ لأنّا نشهد من الشرع إباحة التزين والأمر به ، فلا يسوغ جعله علة للمنع والتحريم ، وثقب إذن الأنثى مباح مع أنّه تزيين دائم .
وكل ذلك إنما هو محاولة لتعدية الحكم ، مع أن الإمام أحمد رحمه الله يبيح حلق الحاجب ويمنع نتفه( ) ولا يجعل إزالة الشعر من الحاجب بقصد التحسين ، ولا استوائهما في الأثر سببًا للتحريم وهذا يدل على عدم فهم تعدية حكم المنصوص لما عداه .
وقال ابن حجر في شرحه للفظ المغيرات خلق الله : ( هي صفة لازمة لمن يصنع الوشم والنمص والتفليج ) ( ) .
ولذا فإنّ ما ورد في الشرع النهي عنه فيوقف عنده ولا يتجاوز إلا بدليل واضح ظاهر .
3) جميع الأعمال التي يقوم بها الإنسان إما أن يريد بها حفظ الضروريات أو مراعاة الحاجيات أو التحسينيات . وبين هذه المراتب فرقًا .
فالضرورة شدة وضيق في المرتبة القصوى بحيث يبلغ حدًا يخشى فيه على نفسه الهلاك أو مقاربة الهلاك ، بضياع مصالحة الضروريّة . وإذا وجدت الضرورة فإن التحريم يرتفع قال تعالى : { وقد فَصّل لكم ما حرّم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } [ سورة الأنعام : 119 ] . وهذا النص يقتضي وجود الإباحة بوجود الضرورة في كل حال وجدت فيها . ( )
أمّا الحاجة فإنها مرتبة متوسطة في المشقّة ولذا فإنّه لا يستباح بها ما يستباح بالضرورة ، إلا أنّ الحاجة إذا كانت عامّة تتناول أكثر الخلق فإنها تنزّل منزلة الضرورة في حق الشخص الواحد ( ). وأما التحسينات فهي دون ذلك .
ولما تناول الشاطبي أنّ مقاصد الشريعة في الخلق لا تعد وأن تكون ضروريّة أو حاجيّة عرّفها فقال : " فأمّا الضرورية فمعناها أنّها لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة ..
وأمّا الحاجيات فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقّة اللاحقة بفوت المطلوب ، فإذا لم تراعَ دخل على المكلفين على الجملة الحرج والمشقّة ، ولكنّه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامّة " ( ).
وبناء على هذا فلا بد أن نميّز بين أنواع التصرفات والإجراءات العلاجيّة ، وما تهدف إليه ؛ إذ منها الضروريّ ، والحاجيّ ، ومنها ما هو دون ذلك ، فيراعى التخفيف في أمور الضروريات والحاجيات العامّة ما لا يراعى في غيرها .
4 ) جَسَد الإنسان ملك لله تعالى كما قال تعالى : { ولله ملك السماوات والأرض وما فيهّن وهو على كل شي قدير } . [ المائدة :120 ] . وعليه فإنّه لا يحق لأحدٍ أن يتصرّف في ملك بما يحرمه مالكه.
وبناء على ذلك فلا يحل للطبيب أن يباشر جسم المريض إلا إذا كان سيعمل عملاً أذن به الشرع ولا يكفي إذن المريض ورضاه . قال ابن القيم : " فإنّه لا يجوز الإقدام على قطع عضو لم يأمر الله ورسوله بقطعه ، ولا أوجب قطعه ، كما لو أذن له في قطع أذنه أو أصبعه ، فإنّه لا يجوز له ذلك ، ولا يسقط الإثم عنه بالإذن " . ( )
وقال ابن حزم : " واتفقوا أنّه لا يحل لأحدٍ أن يقتل نفسه ، ولا يقطع عضوًا من أعضائه ، ولا أن يؤلم نفسه ، في غير التداوي بقطع العضو الألم خاصّةً ".( )
5) وبناء على ما تقدم فإنّا نقول : إن مجرد تضرّر الإنسان النفسي بنظرته الدونية لنفسه في أمور الجمال وأوصافه لا يكفي لاستباحة أي فعل محرم عليه لكن بعد ثبوت كونه محرمًا ، ولذا فقد يذكرُ بعض الباحثين حديث عرفجة بن أسعد أنّه قُطع أنفه يوم الكُلاب ، فاتخذ أنفًا من وَرِق فأنتن عليه ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم فاتخذ أنفًا من ذهب . ( )
فعرفجة لم يتخذ أنفًا من ذهب لحاجته للشم أو التنفس ؛ لأنهما حاصلات بدون وجود البروز ، وإنما اتخذه لتحسين المنظر وهذا يدل على مراعاة الحالة النفسيّة .
وهذا غير صحيح ، لأنّ عرفجة لم يرتكب محرمًا لوجود الضرر النفسي ، بل فعله مباح أصلاً ، وهذا الحديث يدل على جواز إصلاح العيوب بالعمليات التجميليّة ، ولا يدل على أن الضرر النفسي هو المعيار في الإباحة .
مع أن ضرر عرفجة رضي الله عنه غير ثابت أصلاً ، فمن أين أخذ أنه أصابه ضرر نفسي سعى لإزالته بهذا الأنف ؟ .
فإن الضرر النفسي والحزن والهم وإن كانت معتبرة في زيادة ثواب الإنسان وتكفير سيئاته كما ورد في الحديث المرفوع : ( ما يصيب المؤمن من هم ولا نصب ولا وصب ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ) . ( )
ومع أن الشرع راعاه بمنع تسبب الإنسان في إيذاء أخيه ما يحزنه ، لكنه غير معتبر في الشرع في تخفيف التكليف عن العبد ، وغير معتبر في استباحة ما حرم الله سبحانه وتعالى .
سئل ابن تيمية عن رجل له مملوك هرب منه ثم رجع أخفى سكينة وقتل نفسه .
فأجاب : " لم يكن له أن يقتل نفسه وإن كان سيده قد ظلمه واعتدى عليه ، بل كان عليه إذا لم يمكنه دفع الظلم عن نفسه أن يصبر إلى أن يفرّج الله ، فإن كان سيّده ظلمه حتى فعل ذلك مثل أن يقتّر عليه في النفقة أو يعتدى عليه في الاستعمال أو يضربه بغير حق فإن على سيّده من الوزر بقدر ما نسب إليه في المعصية ".( )
فالتكليف مناطه الاستطاعة فمن قدر على امتثال الأوامر والنواهي لزمته ، ولو كان فيها ما يكرهه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ) . ( )
كما أن الضرر النفسي والحزن من الأمور التي لا تنضبط فما يحزن أحدًا قد لا يحزن غيره ، ومقدار الحزن ووقت تحققه وطريقة زواله متفاوتة بين الناس ومثل هذه الأمور غير المنضبطة لا يعلّق الشرع عليها أحكامًا .
فإنها ( ما دامت خفيّة مضطربة مختلفة باختلاف الصُّوَر والأشخاص والأزمان والأحوال فإنه لا يمكن معرفة ما هو مناط الحكم إلا بالبحث الشديد ..ونحن نعلم بالاستقراء من ذات الشارع رد الناس في مثل هذا إلى المظان الظاهرة الجليّة دفعاً للتخبيط , وإزالة للتغليط ونفياً للحرج والمشقة والعسر والضرر , ألا ترى أنّ المشقّة لما لم تنضبط ويختلف الناس فيها باختلاف الأشخاص والأحوال رد الشارع في وجوب القصر والفطر بسببها إلى مظنتها في الغالب وهو السَّفَر ). ( )
ونبينا عليه الصلاة والسلام تشهد سيرته بمواقف شَدّد فيها على التزام التكاليف الشرعية رغم ما يشوبها من ضرر نفسي ..
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إنّ لي ابنةً عُرّيسًا أصابتها حصبة فتمرّق شعرها ، أفأصله ؟ فقال : لعن الله الواصلة والمستوصلة ). ( )
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إنّ ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها ، أفتكتحلُها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا مرتين أو ثلاثًا ). ( )
رابعًا : حكم العمليات التجميليّة :
تقدّم أن العمليات التجميليّة منها عمليات لا بد من إجرائها ومنها عمليات اختياريّة فالعمليات التجميليّة التي لابد منها لتضمنها علاجًا لمرض ما ، أو للحاجة إليها ؛ فإنَّ الباحثين المعاصرين يجيزون إجراءها ومنهم من قيدها بشروط تشمل كل أنواع العمليات الجراحيّة . ( )
ويستدل على جوازها بأنّها نوع من التداوي ، فهي إما علاج لمرض أو إصلاح لعيب محسوس والتداوي مشروع ، كما أن هذه العمليات لا يقصد بها التجميل قصدًا أوليًا بل جاء التجميل تابعًا لإزالة الضرر ومعلوم أن التابع لا يفرد بحكم .( ) وأما العمليات العبثيّة المشوهة للإنسان فهي ليست تجميلاً بل عبث وتشويه وهو محرم لما فيه من المثلة وطلب الشهرة .
أمّا العمليات التجميليّة الاختيارية ، والتي يطلق عليها : جراحة التجميل التحسينيّة فقد اختلف المعاصرون فيها على اتجاهين :
الاتجاه الأول : يرى المنع منها وتحريمها ؛ لأنّ فيها تغييراً لخلق الله تعالى ؛ ولأنه قد وردت نصوص تدل على منع الوشم والنمص والتفليج والوصل وذلك لما فيها من تغيير طلبًا للتحسين وهذا المعنى موجود في هذه العمليات ، ولما فيها من غش وتدليس وأضرار ومضاعفات إلى غير ذلك من الأدلة .( )
الاتجاه الثاني : يرى أن تبحث كل عملية تجميليّة لوحدها ، إذ من هذه العمليات ما دل الشرع على تحريمه والمنع منه ، ومنه ما يمكن قياسه عليها ، ومنها ما بحثه الفقهاء سابقًا أو يمكن تخريجه على أقوالهم فلا تجعل العمليات من هذا النوع كلها في مرتبة واحدة .( )
ولا شك أن التفصيل أسعد بالقبول وأرجح ، وسبب ذلك أن الشرع مع نهيه عن الوشم والنمص والوصل جاء بالإذن بأنواع من الزينة والتحسين كصبغ الشعر مثلاً وهذا يدل على أن تعميم العلة بمنع التحسين غير مقبول ، والعلّة متى فُقد اطرادها دَلّ على إبطال عليتّها .( )
والتعليل بقصد التحسين لا يصلح علةً للتحريم - أيضًا - لأنا نشهد من الشارع اعتبار قصد التحسين والتجميل لا المنع منه كما تقدَّم .( )
ثم إنّ أهل العلم اختلفوا في المعنى الممنوع في النمص والوصل ونحوها ، فقيل : مُنع الوصل لأنّ فيه استعمالاً لجزء آدمي( ) ، وقيل لأجل ما فيه من تدليس وخداع .( )
وقيل في النمص المحرم أن المراد به هو التبرج والتزين للأجانب( )، أو ما كان بدون إذن الزوج( )، أو للتدليس ، أو للتشبّه بالفاجرات . ( )
ومادام أن أهل العلم قد اختلفوا في العلة التي من أجلها ورد النهي ،لم يَسُغ بعد ذلك توحيد علة المنع ، مع ما تقدَّم من المراد بتغيير خلق الله تعالى .
وكذلك فإن الأضرار والمضاعفات والغش والتدليس التي من أجلها حرّم بعض المعاصرين العمليات التحسينيّة بإطلاق ليست قاعدة مطردة في كل العمليات التحسينيّة بل قد تقع في هذه العمليات أحيانًا وقد لا تقع ، وهي مع ذلك أمور خارجة عن نفس العمليات فيكون التحريم لها لا لنفس الجراحة ، إلا إذا رافقتها .
ومن جميع ما تقدَّم فإني أرى أنّ الاتجاه الثاني الذي يجعل لكل نوع من العمليات التحسينيّة حكمًا يناسبه حسبما تدل عليه الأدلّة ويبقى الباقي على أصل الإباحة ، أولى من تعميم الأحكام على صور مختلفة .
ويشهد لهذه النتيجة ما ورد أنّ المقداد بن الأسود - رضي الله عنه - كان عظيم البطن وكان له غلام روميّ ، فقال له : أشق بطنك فأخرج من شحمه حتى تلطف ، فشقّ بطنه ثم خاطه ، فمات المقداد وهرب الغلام .( )
وهذا نوع من العمليات التجميليّة التحسينيّة . والله أعلم .