اختلاف العلماء في عدِّ البسملة آية من الفاتحة لا يدخل في تحريف القرآن؟
السؤال : القرآن الكريم نقل إلينا بالتواتر ، من غير نقص ، ولا زيادة , ولا شك فيه ، ولا ريب , ولا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه , وهذا ما تعلمناه وتربينا عليه . سؤالي هو : كيف اختلف أهل العلم من السلف على أن البسملة آية من سورة الفاتحة ، أو أنها ليست بآية ؟ وهل هذا الخلاف معتبر ؟ وأنا هنا لا أبحث في أدلة هذا الفريق ، وذلك الفريق , ولا أبحث عن معلومات إضافية في هذه المسألة من ناحية فقهية , فلقد قرأت فيها الكثير والكثير من الأبحاث , ولكن بحثي وسؤالي هو : كيف نسوِّغ الاختلاف في آية من القرآن الكريم الذي نقل إلينا بالتواتر ، جمع عن جمع ، وهكذا ، على أنها آية ، أو ليست بآية؟ هل يجب أن لا يكون هناك خلاف في هذه المسألة ؟ . أرجو أن تنفِّسوا عنِّي كربة هذا الهم الذي أصابني من هذه المسألة .
الجواب :
الحمد لله
لم يختلف المسلمون في أن الله تعالى قد حفظ كتابه من الزيادة والنقصان ؛ تحقيقاً لقوله عز وجل : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) الحِجر/ 9 .
وقد أجمع المسلمون على كفر كل من يخالف هذا فيزعم أن كتاب الله تعالى فيه ما ليس منه ، أو نقص منه ما أنزل الله فيه .
قال القاضي عياض رحمه الله :
"وقد أجمع المسلمون أن القرآن المتلو في جميع أقطار الأرض ، المكتوب في المصحف بأيدى المسلمين ، مما جمعه الدفتان من أول (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) إلى آخر (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) أنه كلام الله ، ووحيه المنزَّل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن جميع ما فيه حق ، وأن من نقص منه حرفاً قاصداً لذلك ، أو بدَّله بحرف آخر مكانه ، أو زاد فيه حرفاً مما لم يشتمل عليه المصحف الذي وقع الإجماع عليه ، وأُجمع على أنه ليس من القرآن ، عامداً لكل هذا : أنه كافر" انتهى .
"الشفا بتعريف حقوق المصطفى" (2/304 ، 305) .
وأما اختلاف العلماء في عد البسملة آية من القرآن أم لا؟ فلا يدخل في هذا ، لأن أئمة القراءات لم يختلفوا في قراءتها في أوائل السور ، وقد اتفق الصحابة رضي الله عنهم على إثباتها في أوائل السور إلا سورة التوبة ، وذلك في المصحف الذي كتبه عثمان بن عفان رضي الله عنه وبعث به إلى الأمصار .
قال الشوكاني رحمه الله في الكلام عن البسملة :
واعلم أن الأمة أجمعت أنه لا يكفر من أثبتها ، ولا من نفاها ؛ لاختلاف العلماء فيها ، بخلاف ما لو نفى حرفاً مُجمعاً عليه ، أو أثبت ما لم يقل به أحد : فإنه يكفر بالإجماع .
ولا خلاف أنها آية في أثناء سورة " النمل " ، ولا خلاف في إثباتها خطّاً في أوائل السور في المصحف ، إلا في أول سورة " التوبة " .
"نيل الأوطار" (2/215) .
وقد جعل بعض العلماء الاختلاف في عد البسملة آية من القرآن ، كاختلاف أئمة القراءات في بعض الكلمات والحروف ، فقد يثبت في بعض القراءات ما لا يثبت في غيرها .
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله :
"اختلف العلماء في البسملة ، هل هي آية من أول كل سورة ، أو من الفاتحة فقط ، أو ليست آية مطلقاً ، أما قوله في سورة النمل : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) : فهي آية من القرآن إجماعاً .
وأما سورة " براءة " : فليست البسملة آية منها اجماعاً ، واختُلف فيما سوى هذا ، فذكر بعض أهل الأصول أن البسملة ليست من القرآن ، وقال قوم : هي منه في الفاتحة فقط ، وقيل : هي آية من أول كل سورة ، وهو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى .
ومِن أحسن ما قيل في ذلك : الجمع بين الأقوال : بأن البسملة في بعض القراءات - كقراءة ابن كثير - آية من القرآن ، وفي بعض القرآءات : ليست آية ، ولا غرابة في هذا .
فقوله في سورة "الحديد" (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) لفظة (هُوَ) من القرآن في قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وليست من القرآن في قراءة نافع ، وابن عامر ؛ لأنهما قرءا ( فإن الله الغني الحميد ) ، وبعض المصاحف فيه لفظة (هُوَ) ، وبعضها ليست فيه .
وقوله : (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) ، (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا) الآية ، فالواو من قوله ( وقالوا ) في هذه الآية من القرآن على قراءة السبعة غير ابن عامر ، وهي في قراءة ابن عامر ليست من القرآن لأنه قرأ (قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا) بغير واو ، وهي محذوفة في مصحف أهل الشام ، وقس على هذا .
وبه تعرف أنه لا إشكال في كون البسملة آية في بعض الحروف دون بعض ، وبذلك تتفق أقوال العلماء " انتهى .
" مذكرة في أصول الفقه " ( ص 66 ، 67 ) .