المجموعة 5 الغد المشرق

الرهبان والنوبة قبل الرهبان: إذا كانت الرهبنة قد سطع نجمها فى آواخر
القرن الثالث وفى القرن الرابع الميلادى، فإن المسيحية كانت فى النوبة قبل
الرهبان والرهبنة.. وذلك لأنه من المستبعد أن تكون المسيحية قد وصلت فجأة
إلى تلك الأوطان.. بل بالتدريج وعلى مراحل ترجع إلى عهد الإضطهادات الأولى
فى مصر.. وتذكر بعض الروايات أن المسيحية دخلت بلاد النوبة على يد المبشرين
المصريين فى القرنين الأول والثانى للميلاد.. بدليل أن بطريرك الكنيسة
القبطية فى مصر منذ عهد المسيحية الأول يحمل لقب بطريرك الإسكندرية والديار
المصرية والنوبة والحبشة والخمس مدن الغربية.. تجمعها الكلمات الثلاث
المنقوشة على خاتمه بطريرك الكرازة المرقسية.. وفي كتاب "ماسبيرو"
تاريخ بطاركة الإسكندرية، وهو كتاب باللغة الفرنسية: أن بابا مصر أطلق عليه
لقب بطريرك الإسكندرية والحبشة والنوبة والخمس مدن الغربية.. كما ذكر
"فانسليب" VANSLEB عنبطريرك الإسكندرية والأقاليم التابعة لمصر بيت المقدس
والحبشة والنوبة والخمس مدن الغربية والبلاد الآخرى التى بشر فيها القديس
"مرقس".. وتأيد هذا اللقب فى مجمع نيقية الأول سنة 325 م.. ومجمع
القسطنطينية الثانى سنة381 م.. وذكر أيضا فى تاريخ البطاركة والسنكسار
تحت تاريخ حياة البابا " ديمتريوس" البطريرك الثانى عشر ( 189-231 م).. أنه
رئيس أساقفة مصر والخمس مدن الغربية والنوبة والحبشة.. وهناك وثيقة
قبطية ذكرها مؤلف الإسلام والنوبة فى العصور الوسطى والوثيقة تتحدث عن بعثة
تبشيرية، إنطلقت من أسوان وجزيرة فيلة إلى النوبة السفلى فى القرن الرابع
الميلادى.. وهذا يوضح العلاقة الطيبة بين المسيحيين فىأسوان وجيرانهم فى
النوبة.. وربما ولابد أن تكون معجزات"الأنبا هارون" أحد أساقفة فيلة فى
القرن الرابع ، قد بهرت أهل النوبة... كما كان ثيودور أسقف فيلة يقوم
بزيارات متعددة لبلاد النوبة، ولقد خدم هذا الأسقف لمدة نصف قرن ، كان فيها
حلقة وصل بين المسيحية وأهل النوبة .. وكان أيضاً سبباً فى أن الدولة
البيزنطية حاولت طرد قبائل البجا أو البلميين من النوبة ، لشدة إيذائهم
للمسيحيين.. وأن كان البجا أنفسهم قد آمن بعضهم بالمسيحية.. وهذا ما تؤكده
الوثائق الثلاث المكتوبة باليونانية.. على رق غزال. .. وجاء فى كتاب
حياة قسطنطين الذى ألفه " يوسابيوس" : أن المسيحية دخلت أثيوبيا على يد
البعثات التبشيرية التى أوفدتها الكنيسة القبطية ، فى عهد " قسطنطين
الأكبر"..الرهبان والنوبة: لقد جاء بعض الرهبان إلى بلاد النوبة وعاشوا
فيها.. بعض المتوحدين تركوا مصر وهربوا جنوباً حتى جبل أولياء.. وقد أطلق
السودانيون إسم أولياء الله على رهبان المسيحية.. وقد كان إهتمام الرهبان
بالتبشير فى النوبة ، إهتماماً كبيراً ، وهنا نذكر:-1. ما تذكره وثيقة
قبطية عن راهب إسمه " بافنليوس" لراهب آخر عجوز يعيش فى جزيرة بالجنادل
الأولى ، ويدعى إسحق وهو تلميذ لناسك مشهور فى هذا الإقليم إسمه " أنبا
هارون".. 2. وحّدث إسحق زائره : عن أن سكان فيلة وثنيون.. وقليل
منهم مسيحيون .. وهؤلاء هم المضطهدون من جيرانهم ، ويزورهم رهبان أسوان
وفيلة ، مرة كل أسبوع لتعليمهم قواعد الدين.. فأرسل مقدونيوس وهو موظف
رومانى تقريراً بهذه الأخبار إلى البابا " أثناسيوس"(344-390 م).. فعينه
اسقفاً حتى يستطيع أن يقوى من شأن المسيحية فى هذه المنطقة ، ثم خلفه مرقس
وإسحق..3. فى تاريخ حياة النبا شنوده رئيس المتوحدين وأقواله ، ما يشير
إلى علاقته بالبجا والنوبيين ، الذين تمنى لهم شنوده أن يتبعوا الحق
ويهديهم الله سواء السبيل. واوى الأنبا شنوده مجموعة من قبائل البجا فى دير
أخميم فى منتصف القرن الخامس الميلادى.. وقدم لهم ما تيسر آملاً فى
إجتذابهم إلى المسيحية..4. توجد مجموعة من قصص الرهبان التى تصور
علاقة الرهبان بالنوبيين والبلميين ( البجا) الذين كانوا يهجمون على
الأديرة ، وكيف كان الرهبان يحاولون كسب ودهم .. ومن بين هذه القصص، أربعون
قصة ، ذكر منها كرمCRUM ثلاثة وتروى القصة الثانية والثلاثون نبوة راهب
يدعى " مرقوريوس" بإغارة النوبيين على الدير.. وقد نصح الراهب وكيل الدير
بضيافة آولئك الغيرين لأن أميرهم سوف يصبح راهباً وقديساً.. وفى القصة
الثالثة والثلاثون ، تتحقق النبوة كاملة ويقوم هذا الأمير النوبى بحماية
الدير ، ويتضح فى نهاية القصة أن الراهب " مرقوريوس" هو الذى عمد هذا
الأمير النوبى خلال رحلة تبشيرية إلى هناك.. ورغم أن هذه القصص غير معروف
تاريخها ، ولكنها تحتفظ لنا بذكرى تبشير الرهبان فى بلاد النوبة ، ربما فى
القرن الرابع أو الخامس الميلادى.. لقد أحب الرهبان أهل النوبة وقدموا لهم
السيد المسيح مخلصاً وفادياً....
87. الإمبراطور وزوجته فى سباق نحو النوبة البدايات
الأولى: من المعروف أن المسيحية دخلت إلى النوبة فى القرن السادس الميلادى
ولكن كانت هناك بدايات للمسيحية عن طريق هجرة من آمنوا بالمسيح نحو الجنوب،
بسبب الإضطهادات القاسية.. ولقد أمعن كثيرون منهم فى الهجرة جنوبا حتى
بلاد النوبة، وإستقروا هناك .. ودخلوا إلى أعماق أفريقيا حتى أن المسيحية
بدأت فى عهد الملك "عيزانا" فى القرن الرابع الميلادى رسمياً قبل أن تبدأ
رسمياً فى النوبة المتآخمة لمصر.. ودخلت المسيحية على السودان ، عن
طريق مصر.. وقد كان أيضا يهود مصر بين من حضروا يوم الخمسين فى آواخر النصف
الأول من القرن الأول ، وعادوا يحملون المسيحية فى مصر وينقلونها مع
التجار إلى السودان.. كما أن أول مسيحى آمن ، كان وزير الملكة كنداكة وهى
ملكة سودانية إسمها" أمانى تيرى".. وقام رجال القوافل التجارية بالحديث مع
سكان السودان عن المسيحية دين جديد وفكر جديد.. ولم تكن قبضة الرومان
المضطهد على مناطق الصحراء قوية.. ولهذا دخلت المسيحية إلى هناك ، وكانت
المنطقة من وادى النيل بين الشلال الثانى والرابع أكثر ملاءمة لهؤلاء
النازحين من المنطقة الواقعة شمال الشلال الثانى .. ففى المنطقة الأولى ،
تكثر الجزر فى النيل ، فيمكن للقادمين أن يجدوا بالإضافة إلى الآمان ،
متسعا للرزق.. وما كشف عنه فى هذه المنطقة من بقايا الكنائس والأديرة ،
يؤيد هذا الرأى بحسب رأى " بودج"Budge .. وزاد عدد المسيحيين فى الواحة
الخارجية وهى طريق القوافل القديم إلى السودان حتى أنه لم يأتى القرن
الرابع إلا وأنشئت أسقفية قبطية لهم.. وفى هذه المنطقة آثار مسيحية ، ترجع
إلى القرن الأول.. وقد أتى القديس " متى الرسول" إلى بلادنا السودان حيث
كانت هذه قرعته أن يخدم فى الحبشة ، ولكن الأب فانتينى يرى أنه ليس ما يؤيد
هذا الرأى.. وذلك بسب صمت الكُتاب والمؤرخين ، ولكن هذا ليس دليلاً لأن
مؤرخين آخرين كتبوا عن هذا، من بينهم الأسقف "إيسيذوروس" فى كتابه "
الخريدة النفيسة" فى تاريخ الكنيسة ، حيث يقول : أن القديس " متى" ذهب إلى
بلاد حبشة آسيا ويرى أنها اليمن ، ومنها إلى بلاد فارس، ورجع إلى حبشة
أفريقيا أثيوبيا، وهناك إلتقى بوزير الملكة كنداكة المسيحى الأول فى
السودان، والذى عمده الشماس " فيلبس".. وعلى يد القديس متى آمنت إبنة
ملك الحبشة وإسمها" أفجانيا" وترهبنت رافضة الزواج ، مختارة أن تكرس حياتها
للرب ، ولكن الملك الذى أتى بعد أبيها ، رغب فى الزواج منها.. ولما رفضت
،علم أن السبب هو تبشير " متى الرسول" فأرسل إليه رسلاً ضربوه حتى مات
شهيداً.. وحديث هذا الأسقف القبطى عن حبشية آسيا ، اليمن ، يؤكد أن
الشعب الأسمر فى اليمن ، لا يتجزأ من الشعب الأسمر فى النوبة ، لأن كوش هو
أبُ القبائل النوبية.. 88 . جزيرة الفيلة الموقع والتاريخ: تقع
جزيرة فيلة فى النيل الذى يحيط بها.. وهى وراء سد أسوان.. وسميت هكذا لأنه
فيها كان يتجمع سن الفيل من قلب إفريقيا.. ويقولون ان إله المنطقة هو
الفيل.. وأطلق عليها العرب إسم آنس الوجود.. وترتبط فيلة إرتباطاً
تاريخياً ببلاد النوبة ، حيث كانت مركزا تجارياً يتجمع فيها العاج وباقى
السلع.. كما كانت مركزاً دينياً ، وكان النوبيون يذهبون فى مواكب إلى معبد"
الألهة إيزيس" ، فى جزيرة " فيلة".. ويأخذون تمثال إيزيس لكى يجلب المطر
والخير لبلاد النوبة ، لأن هذه الألهة إيزيس هىّ ألهة الخصب والنماء..
وكانت جزيرة فيلة تمتلىء باليهود.. قال البعض أن عددهم وصل إلى إثنين
مليون يهودى.. وفى جزيرة فيلة وجدت مخطوطات ، تسمى مخطوطات " الألفنتين "
نسبة لفيلة .. وهذه المحطوطات تؤكد صحة الكتاب المقدس الذى بين أيدينا
الأن، وقد وجد فى 1905... وثائق آرامية من عهد الفرس ، يستصرح فيها يهود
الجزيرة حكومة الفرس ، ليعينوهم على تشييد معابدهم المخربة وإسترداد ما سلب
من حقوقهم. كما دلت الوثائق على وجود حملات تجارية بين يهود الجزيرة
وأمثالهم فى الأقطار الأخرى.. والجزيرة تمتلىء بالرسوم والنقوش التى يمكن
أن تكون مرجعاً لدراسة العقائد الدينية.. فقد كانت الألهة إيزيس ، ليست
للمصريين فقط ، إنما أيضا للسودانيين .. وظل هذا حتى القرن الخامس الميلادى
، وقد إمتلأت فيلة بالكنائس خلال العصر المسيحى.. ولكن هذا لم يلغى وجود
معبد الألهة إيزيس.. وفى بردية معاصرة لأواخر عهد " ثيودوسيوس" الثانى ما
يفيد عن إغارة مشتركة قام بها البلميون والبناطيون على كنائس فيلة.. ولهذا
إلتمس " أبيون"APPION أسقف أسوان وفيلة من الإمبراطور أن يكلف القائد
الرومانى الذى ترابط قواته فى تلك المنطقة ، أن يحمى هذه الكنائس من
إغاراتهم.. وأصدر الإمبراطور " مركيانوس"MARCIANUS أوامره إلى القائد "
مكسيميانوس " بضرورة إخضاع البلميين والنباطيين بالقوة وفعلاً قد كان ..
ولكنه أخيرا عقد هدنة بينهم والرومان لمدة مائة عام فى معاهدة وجدت منقوشة
.. وتبقى على أن يرد البلميين السرى الرومان ويدفعوا تعويضات عن الأفرار
ويرسلوا عددا من الرهائن وفى مقابل هذا يسمح لأهل النوبة ، الحج إلى جزيرة
فيلة ، ونقش نص المعاهدة على جدار معبد إيزيس.. وإستمرت روما تدفع آتاوة
للبلميين والنوبة منذ عهد دقلديانوس.. وسماح روما للنوبة بزيارة معبد إيزيس
للحج يدل على أنها لم تكن ترغب فى فرض المسيحية بالقوة ...أول المبانى :
كان ينظر إلى جزيرة فيلة ، على إنها موقع بعيد ، ولهذا كرست هناك عدة مبانى
للإلهة " حتحور" ربة الأماكن القصية، والتى كانت قد فرت إلى صحراء الجنوب
الملتهبة بمعنى المناطق الحارة.. ثم إستعادت إطمئنانها.. وكانت تلك
الجزيرة ، هى أول أرض مصرية تطؤها قدماها عند عودتها.. أما معبد إيزيس فقد
كان صرحاً كبيراً وهناك متسع من الأرض يزهو بالأزهار ويحده صفان طويلان من
الأعمدة ، يؤدى إلى أول صرح ويتبعه فناء يحده من أحد جوانبه " بيت الولادة"
.. ومن الجانب الآخر طريق أعمدة.. وصرح ثان خلف مظلة صغيرة ذات أعمدة ..
وتأتى بعدها حجرات المعبد الداخلية وبهوها.. وتقول المصادر
الفرعونية أن أول بناء فى جزيرة فيلة كان فى عهد آخر ملوك مصر " نخبتو"
الأول... وكانت آنذاك حديقة ناضرة فى قلب دائرة متسعة من الجبال المظلمة
المقفلرة.. وبقربها يقع فى جزيرة بيجا Bigga الجرانيتية يقع أباتونAbaton
ذلك المكان الذى يتعذر الوصول إليه ، والذي نام فيه " أوزوريس" آخر نومة
له.. ولا يستطيع أى رجل أن يضع قدمه فى ذلك الموضع .. وكان قبر ذلك الإله
فى ظل دغل تحيط به 365 مائدة للتقدمات تتلقى كل يوم لبناً مسكوباً.. وبقربه
كهف ترتفع فيه المياه مرة كل عام ، فى عيد ميلاد الملك الإله.. وفي
الموقع عدة هياكل للألهة " حتحور" ألهة الأماكن البعيدة ، ولكن هذه الجزيرة
بكل ما فيها من أمجاد تاريخية غمرتها مياه السد العالى...
89. عدالة ملوك النوبة العدالة الإنسانية: ترتبط العدالة
الإنسانية بالسلوك تجاه الآخرين وبخاصة فيما يتعلق بحقوقهم فى مجال
الأعمال.. وتأتى الآوامر بالعدالة من اله حيث يقول: لا ترتكبوا جوراً فى
القضاء، لا فى القياس ولا فى الوزن ولا فى الكيل، ميزان حق ووزنات حق تكون
لكم.. وتقضى العدالة عدم محاباة الوجوه فلا تفرق بين الغنى والفقير..
والمواطن والغريب.. لا تحرف القضاء ولا تأخذ رشوة العدل..العدل تتبع (
تثنية 16).. وقد وصف القاضى الظالم بأنه لا يخاف إلهاً ولا يهاب إنساناً..
وهناك علاقة بين البر والعدل وقد يتداخل المفهومان ، لأن العدل لا يعنى
فقط مجرد إعطاء الآخرين حقوقهم ، بل ضمان آداء هذه الحقوق.. أطلبوا الحق..
أنصفوا المظلوم.. أقضوا لليتيم .. حاموا عن الأرملة.. وللعدل جانب روحى حيث
يعد ‘جراء العدل جزءاً لا يتجزأ من شريعة الله ، مبنياً على أساس قداسته..
وللعدل معايير واضحة ، هى النزاهة وعدم إستغلال النفوذ .. لأن الرشوة
تعّوج القضاء.. وأهم إمتياز للملك التقى الذى يحيا حياة التقوى هو إجراء
العدل.. ودليل على أنه يسلك فى طريق الله.. وقد تحدث الكتاب المقدس عن
عدالة الملوك فيما يلى :-1. ومَلكَ داؤد على جميع إسرائيل وكان داؤد
يجرى قضاء وعدلاً لكل شعبه (صموئيل الثانى 15:..2. عندما مَلكَ
سليمان وجاءت إليه ملكة سبأ وهى ملكة سودانية، لأن هو إبن كوش جد أهل
السودان ، قالت الملكة الكوشية تمتدح سليمان : ليكن الرب مباركاً، الرب
إلهك الذى سر بك وجعلك على كرسى إسرائيل، لتجرى حكماً وبراً ( ملوك
الأول9:10).. وهذا يعنى وعى ملوك الحبشة كوش نحو العدل وأهميته..3. طلب
سليمان من الرب فى صلاته أن يعطه قلباً فهيماً ، ليحكم الشعب ويميز بين
الخير والشر.. وعندما حكم حكماً عادلاً فيما يخص إمرأتين تنازعتا على ولد
واحد.. وكانت كل واحدة تدعى أنه إبنها، وكانت حكمة سليمان أن يشطر الحى إلى
شطرين، وصرخت إحدى المرأتين رافضة هذا الحكم ، فحكم بأنه إبنها وكان أن
الناس خافوا الملك لأنهم رأوا فيه حكمة الله لإجراء الحكم( ملوك
الأول13)..4. فى نبوة أشعياء عن المسيح المنتظر ، لأنه يولد لنا ولد
ونعطى إسماً وتكون الرياسة على كتفه ويدعى إسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً
آباً أبدياً رئيس السلام.. يثبت مملكته ويعضدها بالحق(أشعياء ..5.
فى صلوات داؤد فى الزبور اللهم أعط أحكامك للملك وبرك لإبن الملك يدين شعبك
بالعدل ومساكنك بالحق( مزمور 1:72)..6. وفى الأمثال ، أنا الحكمة أسكن
الذكاء.. بىّ تملك الملوك وتقضى العظماء عدلاً ( أمثال 1)..عدالة ملوك
النوبة: وفى العصر المسيحى عاش ملوك النوبة تحت مظلته هذه القيم الروحية
التى فى الكتاب المقدس.. وعرفوا أن العدل أساس الحكم.. وكان لهم فى البلاد
المجاورة صيتاً رائعاً فى إحقاق الحق وتنفيذ العدل.. وكانت شبه
الجزيرة العربية قريبة جداً إلى مملكة النوبة.. ولم يكن لسان البحر المتوسط
قد فرق بين المنطقتين.. وعندما بدأ الإسلام ، شهد الرسول الكريم شهادة
حق لملوك النوبة ، عندما قال لهم : أن يذهبوا فى هجرتهم إلى ملك الحبشة وهو
ملك لا يظلم الناس عنده.. وكما أن ملكة الحبشة كنداكة ، وهى ملكة مروية فى
مروىكبوشية ، وهى " أمانى تيرى".. هكذا كان ملك الحبشة هذا.. وهو ملك
سودانى نوبى.. وقد إشتهر بالعدالة.. ولم يظلم إنساناً.. وكان المقهورين
والبؤساء يجدون العدل عنده.. وقد أثبت بروفسور" عبد الله الطيب" بأن هذا
الملك الذى آوى المهجرين هو ملك نوبى، وهكذا إتفق معه البروفسور " الفاتح
غريب الله" الذى أكد أن الملك ، ملك سودانى وإن العدل كان قوام كرسيه،
وقال: إن المهاجرين عندما ذهبوا إليه كانوا حفايا ، فآواهم وإهتم بهم
وناصرهم ضد القبائل العربية التى كانت تريد أن تقضى عليهم.. لقد كان
ملوك النوبة يحبون الله ويحبون العدل ، حتى أن بعضهم تنازل عن عرشه لكى
يحيا مع الله ، ولكى لا يوقع ظلماً على الناس.. إن حضارة العدالة كانت تميز
ملوك النوبة فى سلوكهم مع الشعب. 90. حكام الجنوب في النوبة
الأسرة السادسة: يتألق فى هذا الحديث عن الأسرة السادسة الفرعونية إسم
النوبة تألقاً باهراً.. فلقد بدأ إهتمام من مصر بهذا الجار العزيز الذى يمد
مصر بالذهب وسن الفيل وريش النعام،حتى أن جزيرة فيلة فى أسوان سميت هكذا
لأن فيها كان يجمع سن الفيل وأيضا لأنه تسكنها قبيلة إتخذت من الفيل رمزاً
إلهياً مقدساً لها.. وفى الأسرة السادسة تظهر أسماء لامعة لما دعى حكام
الجنوب.. وكان فرعون يعين حاكماً للجنوب من طرفه كان يسمى إبن فرعون ، وهو
ليس إبنه بالطبع ، بل بالوضع والمكانة.. ومن بين حكام الجنوب تلمع
أسماء مثل " أونى" " وحرخوف" " وبيبى نخت"PEPINEKHT و"سبنى"SEBNI..بل تذكر
نقوش الصخور الموجودة على شاطىء النيل فى المنطقة من أسوان إلى فيلة، ما
يدل على أن فرعون مصر" مرن رع" قد زار منطقة الشلال الأول، فأقبل آمراء
النوبة ليقبلوا الأرض بين قدميه.. وعندما تسجل الصخور على القبور كلمات
حكام الجنوب، إنما تقف فى الوقت نفسه على أسماء أطلقها الفراعنة على
النوبة، فهى بلاد الواواتWAWAT و"إرتت"و" إيام" "ومازوى ومجا".. وسوف نذكر
هنا ما ورد من وثائق عن حكام الجنوب، ذكرها الدكتور " شوقى الجمل" فى
الجزء الأول من تاريخ سودان وادى النيل وحكام الجنوب هم:-1. أونى قائد
الجيش: فى عهد الملك " بيبى الأول" تجمعت قبائل على حدود مصر الشرقية،
لغزوها فإنتدب الملك رجلاً من رجال القصر كان قد بدأ موظفا صغيرا حتى صار "
قاضيا" للقصر وعينه قائداً للجيش وهو " أونى" وكان أفراد الجيش الكبير
العملاق هم من بلاد النوبة المهرة فى إستخدام القوس ، رماة الحدق.. وجاء فى
نقش على مقبرة "أونى" ومن تأليفه ما يلى: لقد ألف صاحب الجلالة سيدى ملك
القطرين" بيبى الأول" جيشاً كبيراً من عشرات الآلاف من الجنود الذين جلبهم
من المنطقة الجنوبية( النوبة) الواقعة جنوب جزيرة الفانتين (الفيلة).. من
بلاد إرتت IRTHET وبلاد مازوى MAZOI وبلاد إيام IAM ثم من بلاد " كا " آو
KA-AW التى يسكنها الزنزج .. وأرسلنى صاحب الجلالة على رأس هذا الجيش
الكبير.. وقد عيّن "أونى" حاكماً للجنوب وهى وظيفة بدأت تظهر أهمية شاغلها
منذ الأسرة السادسة.. وكان حكام الجنوب يلقبون.. إبن فرعون.. قواد القوافل
المصرية المتجهة للجنوب والتى تجلب الخيرات لملك مصر وحراس الباب الجنوبى..
وفى نص آخر تحدث " أونى" عن الأعمال الهندسية التى أسندت إليه ، وكيف
إستعمل شجر السنط المزروع فى بلاد الواوات والذى تصنع منه الأن " فلنكات"
السكه الحديد فى مصر والسودان.. وقال فى النص بالنص: أرسلنى جلالة الملك
"مرن رع" لحفر خمسة ترع فى الجنوب ولأضع ثلاث نقالات وأربع قوارب تجر
بالحبال من خشب سنط بلاد الواوات.. وقد كان رؤساء أقطار " إرتت" وواوات "
وإيام ومجا" يقدمون الخشب لهذا الغرض.. وقد أجزت العمل فى سنة يدخل فى ذلك
السياحة وتحميل الجرانيت بكمية لهرم" مرن رع"...2. حرخوف حاكم الجنوب:
وقد كان فى الأصل أميراً على جزيرة فيلة .. وعينه الفرعون "مرن رع" ليكون
حاكماً للجنوب ، وجاء على صخور مقبرته فى الضفة الغربية بأسوان حديثه الذى
يقول فيه : أرسلنى جلالة الملك "مرن رع" إلى منطقة" إيام" لفتح الطريق إلى
ذلك القطر، 3. ففتحته فى سبعة أشهر وأحضرت كل المحاصيل التى تحصد
من هذه المنطقة ، ومدحت كثيراً لأجل هذا العمل، وكذلك أرسلنى سيد القطرين
جلالة الملك مرة ثانية إلى هذا القطر ، فسرت فى طريق جزيرة فيلة ووصلت إلى
"إيام".. ورجعت مخترقاً بلاد " إرتت". وماخر" فى نحو ثمانية أشهر وجلبت معى
محاصيل هذه البلاد بوفرة عظيمة لم يجلب مثلها أى شخص إلى هذا القطر ، وهذا
ما لم يفعله من قبل أى شخص ذهب إلى " إيام".. وأرسلنى جلالة الملك ، مرة
ثالثة إلى "إيام" .. متوجهاً إليها عن طريق الواحة ووجدت أن حاكم "إيام"
كان قد ذهب إلى بلاد " التمحو" TEMEHW وهى ليبيا ، وعدت من هناك إلى مصر
ومعى" ثلاثة ألف حمار أو مائتين ، الآمر يحتاج إلى مراجعة الرقم".. والحمير
محملة بالبخور والأبنوس وزيت الكافور والحبوب وجلود النمور والعاج وعصى
الرماية.. وحكىَ أنه فى طريق عودته، عاد من طريق الواوات وليس الواحات ..
وإهتم به حكام البلاد وأكرموه وأرسلوا معه من يدله على طريق العودة.. وإذا
كان" حرخوف " قد قام بثلاث غزوات فى أيام " مرن رع" فإنه قام بغزوة رابعة
بأمر من الملك " بيبى" الثانى.. والذى كان طفلاً لم يتعدى السادسة من
عمره.. وفى الرحلة الرابعة أحضر معه" قزماً" يحسن الرقص.. وإهتم الملك"
بيبى" الثانى إهتمام طفل ووعده بالهدايا وحذره من أن يغرق القزم فى
النيل...4. بيبى نخت: وهو أيضاً أمير جزيرة فيلة وحاكم الجنوب .. وذكر
فى مقبرته: أرسلنى جلالة سيدى رب القطرين لغزو الواوات ، فقمت بهذا العمل
مما جعل سيدى يمدحنى .. وقد جلبت عدداً من الآسرى منهم أبناء الرئيس
والعظماء ، لأننى كنت بطلاً على رأس رجال أشداء ، وقد أخضعت حكام بلاد
الواوات" وإرتت" لمصر.. وجلبت معى عدداً لا يحصى من الماشية والماعز..5.
سبنـى: SEBNI وهو من حكام الجنوب وتبدأ قصته بأنه سمع بموت أبيه فى
السودان وسافر ليحضر جثة أبيه بإذن من الملك ، وكتب على مقبرته: توجهت مع
فرقة رجال إقطاعيتى ومعى مائة حمار، محملة بالعطور وعسل النحل والملابس
المصرية ومصنوعات آخرى مختلفة.. ووصلت إلى بلاد الواوات .. فوجدت جثة أبى
محملة على حمار، فأسرعت وصنعت تابوتاً من الخشب وطلبت من رجالى أن يحملوه
.. ورجعت به إلى مصر ومعى كثير من الهدايا مثل البخور وأنياب الفيل ، طول
الواحد منها ثلاثة أذرع (3×5, 52سم= 157,5).. وبعضها طوله خمسة أذرع ، ثم
أحضرت كل ما كان سيحضره والدى من هذه البلاد... 110.
النوبــة العليـــــا ثلاث مناطق: قسم الجغرافيون إقليم النوبة إلى ثلاثة
أقسام هى: وادى النوبة العليا، ووادى النوبة الوسطى، ووادى النوبة
السفلى..ولهذا الجزء من وادى النيل ظواهر جغرافية خاصة ، أثرت فى تاريخ
الجماعات البشرية التى إستوطنته فى مختلف العصور، ومن أهم هذه الظواهر
إنحناءات المجرى فيما بين مدينتى أسوان والخرطوم.. فضلا عن إعتراض
الجنادل.. وعاش أصل النوبة حول النيل شريطاُ وودياناً.. وتتسم النوبة
بإختلاف الأحوال الجوية بين مناطقها ، فترى منطقة نادرة الأمطار أو تكاد
عديمة الأمطار من شمال بربر إلى أسوان ومنطقة تغمرها الأمطار بنسب
متفاوتة..النوبة العليا: يمتد وادى النوبة العليا من منطقة إلتقاء النيلين
الأبيض والأزرق إلى دنقلة.. وهذه المنطقة الآن فى الخرطوم ، ولكن الخرطوم
إسم جديد لمنطقة جديدة، وقد تحدث الدكتور يوسف حسن مدنى : إن الخرطوم مدينة
جديدة.. كانت سوبا هى العاصمة.. وكانت توتى لها مكانتها القديمة، وكان
فيها كنيسة كبيرة.. وعن وادى النوبة العليا أن حافة الوادى كانت تبتعد
بعض الأحيان قليلاً على جانبى نهر الوادى ، وتصبح له صفة الحوض الذى تنغمر
بعض أجزائه خلال أيام الفيضان.. ويتمثل ذلك فى الجزء الذى يقع فيما وراء
شندى ، وكذلك الجزء الذى يمتد إلى وراء الجانب الأيسر من النهر ، فيما بين
مروى وأبو فاطمة ، وتمثل هذه المناطق التى يتسع فيها الوادى على أحد
الجانبين مركز تجمع السكان الذين تساعدهم البيئة الطبيعية على مباشرة
الزراعة معتمدين على مياه النهر.. ويقع إقليم النوبة العليا على الحافة
الصحراوية التى تتضاءل فيها بكميات المطر السنوى إلى حد كبير إذ يلاحظ
المتتجه شمالا من الخرطوم تناقص كمية المطر السنوى ، فهى فى الخرطوم 163
مليمتراً سنوياً ، وفى عطبرة 75 مليمتراً، ومن ثم يزداد الجفاف شمالا
فتنخفض كمية المطر السنوى فى كريمة إلى 35 مليمتراً ، وتتساقط هذه الكمية
المحدودة فى شهور الصيف ما بين يوليو وسبتمبر ، والتى تسمى في السودان موسم
الخريف حيث ترتفع الحرارة وتسود الرياح الجنوبية الساخنة ... وهذه
المياه تتجمع فى بطون الأودية الجافة ما يسمى بالأخوار ، وتسيل في إتجاه
الوادى من الصحراء التى تشرف على الجانبين ، فتبعث بعض النشاط في بطون تلك
الأودية ، حيث تمرح الحيوانات فى مناطق العشب القصير، الذى يتبع فصل أمطار
الخريف.. وتمثل هذه الأودية من ناحية أخرى طرق المواصلات التى تنساب من
الشرق والغرب إلى الوادي قرب الدبة.. ووادي مقدم الذي ينساب في قلب صحراء
بيوضة نحو الشمال.. أما من ناحية الشرق فهناك وادى عامور الذى ينساب من
السفوح الغربية لتلال البحر الأحمر..دولة كوش: وفى وادى النوبة العليا قامت
دولة كوش العظيمة.. وكوش هو إبن حام.. وهو شقيق مصرايم أبُ المصريين ، وهو
والد سبا مؤسس مملكة سبأ فى اليمن أو أرض التيمن كما يقول الكتاب المقدس..
وقد كانت نبتة هي أول عاصمة لدولة كوش.. وبعدها تأتى مروي.. والمنطقة تعمل
بالزراعة وتتمتع بإستقرار الزراعة.. وكانت مروى عاصمة تجارية ،
تربط البلاد بواسطة نهر النيل ، وأيضا تربط سهول غرب السودان بموانىء البحر
الأحمر فى الشرق.. والنوبة العليا غنية بالثروة المعدنية ، والثروة
الغابية.. وقد كانت مركز تجمع للسكان غير أن الصحارى لم تكن سوى أرض خلاء ،
ما عدا الواحات.. وفي منطقة النوبة العليا قامت دولة علوة فى منتصف
القرن السادس الميلادى ، وكان طرفها الشمالى منطقة الأبواب وهى كبوشية
الحالية ، وتمتد إلى جنوب إلتقاء النيل الأبيض والأزرق والعاصمة سوبا على
الضفة اليمنى للنيل الأزرق.. ويرى نعوم شقير إن النوبة الآن قد إنقرضت
من تلك البلاد وإنقرضت لغتهم ولم يبق منهم إلا نفر قليل فى نواحى شندى
وجريف ود قمر قرب سوبة، وإعتنقوا الإسلام وإتخذوا لغة العرب ، لغة لهم ولم
يزالوا مميزين عن العرب أخلاقاً وخلقاً وهم رغم إنهم مسلمون يرى نعوم شقير
إنهم لا يحترمهم الآخرون وإن العرب تأنف من مصاهرتهم ، إلا إنهم قد يتزوجون
الجميلة من نسائهم ويزوجون كبارهم غير الجميلة من نساء العرب ، ولا شك إن
الأمر قد تغير منذ كتب نعوم شقير والأمور صارت إلى أحسن ، على الأخص عن
طريق المصاهرة.. وتحفل النوبة العليا بالآثار المسيحية التى حتى وإن
طمرتها الرمال ، فإن بناء سد مروى أعاد إليها الروح من جديد ، حيث تقوم
البعثات الآثرية بالكشف عن الآثار المطمورة تحت الرمال ، وقد وجدوا فعلا
ضالتهم المنشودة.. في كنيسة الستة عشر عاموداً.. ودير الشهيد واللوحات
الفنية والأيقونات الكنسية.. وكانت النوبة العليا تخضع لكنيسة
الإسكندرية هي التي ترسل إليهم المطارنة ، وكانت لغة كنائس النوبة ، هي
اللغة القبطية واللغة اليونانية ، وطقوس الكنائس النوبية هى نفس طقوس
الكنيسة القبطية أو اليعاقبة كما يحلو للعرب أن يسموهم ، حيث يقول
المقريزى.. وبعث إليهم من أساقفة اليعاقبة ،فصارت النوبة من ذلك العهد
يعاقبة ، والعهد هو خلافة هشام بن عبد الملك فى مصر من عام724-743 م أى
القرن الثامن الميلادي.. (منقول)