التناسب بين مطالع السور وخواتيمها
التأنق في بداية الكلام هو أحسن أنواع البلاغة عند البيانيين، لأن البداية هي السبب في إقبال السامع على الكلام أو إعراضه عنه، فينبغي على الخطيب أو المتكلم أن يأتي بأحسن الألفاظ نظماً وسبكاً، وأوضحها معنى وأصحها دلالة وأقواها تأثيراً.
وأخص أنواع البدايات الحسنة في الكلام هو براعة الاستهلال، وذلك بأن يشتمل الكلام على ما يناسب الحال التي يتكلم فيها.
ومطالع سور القرآن الكريم وخواتيمها جاءت على أحسن الوجوه وأكملها، فقد استهل الرب سبحانه وتعالى بعض السور بما كان العرب يبدأون به أقوالهم في المهمات كقولهم ((يا أيها الناس))، ((ياقوم)) وفي هذا تنبيه للسامعين إلى ما سيلقى عليهم من الأقوال الهامة كما جاء في سورة النساء: ((يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة))، وفي الحج: ((يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم))، وفي الحجرات: ((يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)).
واستهل بعضها بحمده وتسبيحه كما في الأنعام: ((الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور))، والكهف: ((الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا))، وسبأ: ((الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض))، وفاطر: ((الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلا)).
واستهل - سبحانه - بعض السور ببيان الغرض المقصود من التنزيل كما في قوله: ((تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم))، ((سورة أنزلناها وفرضناها)).
واستهل بعضها من غير تمهيد أو عنوان كقوله: ((إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله))، ((قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها)).
هكذا كانت أساليب العرب في الرسائل والخطب.
إلا أن بعض السور بدأت بما بعد عن أساليب خطباء العرب ولا عهد لهم بمثله، فبعض السور بدأت بالحروف المقطعة: ((الم)) ((الر))، ((المص))، ((كهيعص))، ((طسم))، ((حم)).
هذا الأسلوب مبتكر في القرآن لم يسبق إليه قط، وفيه تنبيه للقوم إلى ما سيتلو عليهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما خواتيم السور فهي مثل الفواتح في حسن البيان، فقد ختمت بجوامع الكلم ومنابع الحكم والتأكيد البليغ والتهديد العظيم ما بين أدعية ووصايا وفرائض وتحميد وتهليل ومواعظ ووعد ووعيد.
قبل البدء بذكر أمثلة على مطالع السور وخواتيمها، يجدر بنا أن نتحدث عن الإطار العام للقرآن الكريم مطلعه وختامه لنرى ما فيه من براعة الاستهلال وحسن الخاتمة.
فسورة الفاتحة هي مطلع القرآن الكريم، وقد اشتملت على جميع مقاصد القرآن العظيم باختيار الألفاظ الحسنة والمقاطع الموجزة المستحسنة.
هذه السورة على إيجازها احتوت باختصار على جميع علوم القرآن، إذ تضمنت أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية يُؤخذ من قوله ((رب العالمين)) وتوحيد الألوهية أي إفراد الله بالعبادة يُؤخذ من الاسم الجليل ((الله)) ومن قوله ((إياك نعبد وإياك نستعين)) وتوحيد الأسماء والصفات إثبات صفات الكمال لله عز وجل ودل عليه كلمة ((الحمد)) وفي قوله تعالى ((اهدنا الصراط المستقيم)) إثبات النبوة لأن الهداية إلى الصراط المستقيم تمتنع من دون الرسالة، وفي قوله تعالى ((مالك يوم الدين)) إثبات الجزاء بالعدل على الأعمال، وفي قوله تعالى ((اهدنا الصراط المستقيم)) إثبات القدر، لأن الصراط المستقيم يعني معرفة الحق والعمل به، وكل مخالف لذلك فهو مبتدع ضال.
وفي قوله تعالى: ((إياك نعبد وإياك نستعين)) يتضمن إخلاص الدين لله في العبادة والدعاء وفي قوله تعالى: ((غير المغضوب عليهم ولا الضالين)) إثبات علم القصص والتاريخ لأن فيه الاطلاع على أخبار الأمم السابقة ومنهم اليهود والنصارى المغضوب عليهم والضالون.
ولذلك فقد احتوت سورة الفاتحة على جميع مقاصد القرآن الحكيم.
وختم القرآن الكريم بالمعوذتين والحكمة في ذلك أن القرآن من أعظم نعم الله على عباده والنعمة مظنة الحسد، فختم بما يطفئ الحسد وهو الاستعاذة بالله العظيم من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس.
فابتدأ بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم وبالاستعانة بالله وانتهى بالاستعاذة به سبحانه من شر كل ذي شر، ليكون العبد مستعيناً بالله عز وجل ملتجئاً إليه في أول أمره وفي آخره.
ذكر الأمثلة على مطالع السور وخواتيمها:
- بدئت سورة البقرة بذكر أوصاف المتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقهم الله ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل الله من الكتب ويؤمنون باليوم الآخر، ثم ختمت السورة بما يثبت لهم الأوصاف المذكورة في مطلع السورة تأكيداً على أن هؤلاء هم المفلحون، ثم دعائهم لله عز وجل أن يتقبل منهم إيمانهم وأعمالهم الصالحة، فتناسب المطلع والختام.
- افتتحت سورة النساء بدعوة الناس جميعاً إلى عبادة الله عز وجل وتقواه والوصية بالأرحام ثم بيان الحقوق والفروض الواجبة للورثة والوصية باليتامى والمساكين، وختمت السورة مؤكدة ما ورد في مطلعها من بيان حقوق الورثة والضعفاء وأن هذا التقسيم الذي ذكر تفصيله في ثنايا السورة بيانه من عند الله عز وجل الذي هو بكل شيء عليم.
- افتتحت سورة المائدة بالأمر بالوفاء بالعقود، وتحليل ما أحله الله وتحريم ما حرم سبحانه فإن الله يحكم ما يريد ولا معقب لحكمه، ثم ختمت ببيان مصير الذين يوفون بعقودهم والذين لا يوفون يوم القيامة ((قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم)) ، ((لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير))، ولكونه مالك السموات والأرض وهو على كل شيء قدير، فهو يحكم ما يريد، ألا له الخلق والأمر فتدبر كيف ارتبط المطلع بالختام.
- بدئت سورة الأنعام بقوله تعالى: ((الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون)) ثم ختمت بقوله تعالى: ((وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم)).
تأمل كيف جاء الفعل (جعل) في مطلع السورة وختامها، فالذي جعل الظلمات والنور هو الذي جعل الناس خلائف الأرض وفرق بينهم في الدرجات فمنهم الغني ومنهم الفقير ومنهم المؤمن ومنهم الكافر، فلا إله إلا هو ولا معبود سواه، هو الذي يغفر للمؤمنين ويعذب الكافرين فهل يستحق الحمد إلا هو؟ وهل يصح أن يعبد سواه؟ تعالى الله عن شرك المشركين الذين بربهم يعدلون.
- افتتحت سورة يوسف بقوله تعالى: ((الر تلك آيات الكتاب المبين، إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون، نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن)) ثم ذكر قصة يوسف التي هي من أحسن القصص، ثم ختم السورة بقوله: ((لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون))، إذ لم يجمع تفصيل قصة واحدة في موضع واحد في القرآن الكريم مثل قصة يوسف، وفي مطلع السورة قوله: ((لعلكم تعقلون)) وفي ختامها ((عبرة لأولي الألباب)).
- بدئت سورة الرعد بقوله تعالى: ((المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون)) ثم ختمت بقوله تعالى: ((ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب))، فلو سأل سائل من هم أكثر الناس الذين لا يؤمنون؟ فالجواب هم الذين كفروا بالله وجحدوا رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فختمت السورة بالتوضيح والتأكيد.
- بدئت سورة الإسراء بتسبيح الله عز وجل ((سبحان الذي أسرى بعبده)) وختمت بقوله تعالى: ((وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً))، فقد شملت أفضل أنواع الذكر (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، فتأمل براعة الاستهلال وحسن الختام.
- بدئت سورة الكهف ب ((الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب)) بشارة للمؤمنين وإنذاراً للكافرين، وختمت ببشارة من يثبت ويسلّم بوحدانية الله عز وجل ولا يشرك بعبادة ربه أحداً، فهذا هو الذي يرجو لقاء الله.
- افتتحت سورة الحج بالأمر بتقوى الله عز وجل والترهيب من هول الساعة، ثم ختمت بقوله تعالى: ((فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير)) إذ النجاة من هول ذلك اليوم العظيم هو بتقوى الله والاعتصام به سبحانه وتعالى.
- افتتحت سورة المؤمنون بذكر أوصاف المؤمنين المفلحين فقال تعالى: ((قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون)) وختمت ببيان عاقبة الكافرين ((إنه لا يفلح الكافرون)) ولكن ((قد أفلح المؤمنون)) ، فتدبر هذا التناسق العجيب الذي يزيل الوهم والشك، فالمؤمنون هم المفلحون، والكافرون هم الخاسرون، فلا يغرنك ما آتاهم الله من متاع في الحياة الدنيا.
- - افتتحت سورة القصص بذكر موسى وفرعون، فرعون المتأله المتجبر وجنوده، وموسى ومن معه من المستضعفين، وما حصل لهم من أذى فرعون، ولكن عاقبة الأمر أن أهلكه الله، ثم ختمت السورة بذكر ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم من أذى قومه وإخراجهم له من بلده، والعاقبة تكون لمحمد صلى الله عليه وسلم كما كانت لموسى بنصره على فرعون، فاثبت وداوم على توحيد الله فالذي أهلك فرعون سيهلك كل جبار عنيد ((ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون)).
- افتتحت سورة العنكبوت بذكر الابتلاء ((أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون)) وختمت بما يكون به الابتلاء وهو الجهاد فقال سبحانه: ((والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين)).
- - افتتحت سورة الروم بذكر ما يفرح له المؤمنون وهو نصر الروم أهل الكتاب على الفرس الوثنيين وأن ذلك سيكون في بضع سنين، ثم ختمت بالوصية بالصبر حتى يتحقق ذلك النصر فقال سبحانه: ((فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون)) ، فتدبر كيف كان التناسق بين المطلع والختام.
- افتتحت سورة محمد بقوله تعالى: ((الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم)) واستعمل في هذه الآية ضمير الغائب (هم) للتحذير من الكفر ومجانبته لأن الكافر عمله بَوار وخَسار، ثم ختمت السورة باستعمال ضمير المخاطب ((وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم)) ، ففي المطلع تحذير وفي الخاتمة تأكيد لهذا التحذير وبيان للحكم والمصير.
- افتتحت سورة الممتحنة بالنهي عن موالاة الكافرين ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم)) وختمت بتأكيد هذا النهي عن موالاة الكافرين، ليبقى هذا الأمر المهم آخر ما يطرق سمع المؤمنين، ثم استعمل ألفاظاً أخرى ولكنها في نفس المعنى تجنباً للتكرار ((يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم)). فتأمل كيف تنا]سب المطلع والختام.