القاضي رئيس محكمة نور الاسلام
عدد المساهمات : 3310 رصيد نقاط : 22910 رصيد حسابك فى بنك نور : 309 تاريخ التسجيل : 06/10/2009
| موضوع: التعاقد بطريقة المراسلة الثلاثاء مايو 18, 2010 2:19 am | |
| لا يزال الإنسان يستعمل الكتابة من بدء وضعها لهذا اليوم للتعبير عن مقاصده وأفكاره وأكثر الناس استعمالاً لها جماعة المشتغلين بالتجارة وما شابهها من أعمال الأخذ والعطاء بين الناس في بلد واحد أو في بلدان مختلفة فهي عند المتراسلين مقام المشافهة لا بل إنهم يلجأون إليها مع استطاعتهم أن يتشافهوا ويتباحثوا ويجعلونها واسطة التعاقد بينهم. كانت هكذا في أيام الرومان وفي بدء الإسلام ولا تزال ليومنا هذا على ما هي عليه ولا يخفى على أحد ما يبرمه الناس وينقضونه بين بعضهم بالمكاتبة بواسطة البريد بما يسمونه رسائل أو كتب أو تحارير أو جوابات، فيكون إذًا من الأهمية بمكان البحث في العلاقة القانونية المتولدة من المكاتبة بين المكاتبين
وما يصدق على رسائل البريد ينطبق على رسائل البرق (التلغرافات) أيضًا فإن الناس في معترك الحياة الهائل يطلبون السرعة في العمل وقد يعدون الدقائق من ذهب فللتلغراف في معاملاتهم القانونية شأن عظيم مثل شأن رسائل البريد على السواء وقد أضاف تقدم العلم والتمدن واسطة ثالثة للمخاطبة بين الناس البعيدين بعضهم عن بعض هي التلفون، وفي الواقع أن البحث في التعاقد بالتلفون لا يمتاز بشيء عن التعاقد بين شخصين جلس كل منهما في غرفة مجاورة للأخرى وأخذا بالمكالمة بدون أن يرى أحدهما الآخر، على أنه لا بد من ملاحظة أمرين في هذا النوع وهما محل وقوع خطأ في معرفة شخصية أحد المتعاقدين، فإنه لا يخفى أن أسلاك التلفون تربط المدن والبلدان بعضها ببعض فلا مندوحة من معرفة المكان المعتبر محلاً للعقد كما أنه قد يخطئ الرجل فيخاطب رجلاً آخر ليس بالمقصود فيفقد شرطًا من شروط التعاقد وهو معرفة حقيقة شخص المتعاقد معه، وفي هذه الحالة يرجع إلى القواعد الأولية المبينة بهذا الصدد في القانون المدني في أثناء الكلام على هذا النوع من الخطأبحثنا في التعاقد بالمراسلة ينقسم إلى ثلاثة أقسام المراسلة البريدية المراسلة التلغرافية والنوع الأول أهم ما يتجه إليه النظر والبحث
القسم الأول: في المراسلات البريدية لسهولة البحث في هذا الموضوع لا بد من حصره في مباحث خمسةأولاً: جواز التعاقد بالمراسلةثانيًا: شروط صحة هذا التعاقد ثالثًا: الوقت الذي يتم به التعاقدرابعًا: طرق إثبات هذا التعاقد خامسًا: تسجيل هذا النوع من التعاقد البحث الأول: جواز التعاقد بالمراسلة
لا يخفى أن أساس كل تعاقد إيجاب وقبول فمتى توفر هذان الركنان عقد العقد صحيحًا، ولا يلزم لصحة العقد أن يكون المتعاقدان في مجلس واحد أو أن يختص كل منهما بنوع من الكلام بل يكفي أن تتحد إرادتهما وتتفق نيتهما على التعاقد فينتهي الأمر فاتحاد الإرادتين أو النيتين كما يكون بالمشافهة يكون بالمراسلة أيضًا، على أن التعاقد بالمراسلة لم ينل حظوة في عيون جميع رجال القانون لأن منهم من أنكر صحته ومنهم من حدد مدته فجعله ساريًا على المتعاقدين مدة حياتهما فإذا مات أحدهما لا يسري فعل العقد على الورثة، ولا يخفى ما في هذا القول من الضعف الذي لا يصح اتخاذه قياسًا كذلك ولهذا رفضه كبار الشراح وأجمعوا اليوم على أن التعاقد بالمراسلة مثله مثل كل تعاقد آخر على السواء فليس في القوانين ما يمنع هذا النوع من التعاقد أو ينقضه على أنه لا بد من الإشارة في هذا الصدد إلى اعتراض على هذا النوع من التعاقد أبداه العلامة توليه في مؤلفه في القانون المدني الفرنساوي عندما ذكر طرق إثبات التعاقد بين اثنين
قال: إن القانون المدني يوجب في إثبات التعاقد المتبادل التعهدات أن يكون عدد صور العقد مطابقًا لعدد المتعاقدين فمهما كان عدد المتعاقدين يجب أن يكون عدد صور العقد بعددهم وليس الأمر كذلك في المراسلات المتبادلة بين تاجرين مثلاً فإنك إذا جمعت كلما كتب الفريقان جمعت عقدًا واحد مؤلفًا من أجزاء عديدة لا قيمة لأحدهما بدون الآخر فيكون لدينا حينئذٍ عقد عرفي لم يستوفِ الشروط القانونية فيما يختص بعدد الصور ولا يكون هناك ما يثبت هذا النوع من العقود
على أن هذا الانتقاد على التعاقد بالمراسلة غير وجيه كما يظهر لأول وهلة لأنه ليس ما يمنع من إثبات هذا التعاقد بكل طرق الإثبات إذا لم يكن في اليد عدد من النسخ يطابق عدد المتعاقدين فيستطيع المكلف بالإثبات أن يحلف خصمه اليمين أو يثبت العقد بالبينة حاسبًا ما بيده من الأوراق بدء الثبوت بالكتابة
وفضلاً عن ذلك فإن القانون المدني يوجب تعدد النسخ في (العقود العرفية المحتوية على تعهد متبادل بين الفريقين) ولا يوجب ذلك في التعهد نفسه الأمر الذي يدل بأجلى بيان على أن كل طرق الإثبات جائزة لإثبات العقد
هذا فيما يختص بالعقود ذات الالتزامات المتبادلة وأما بقية التعهدات التي لا تفيد إلا فريقًا واحدًا فلا نزاع في أن المراسلات وحدها كافية لإثباتهاعلى أنه لا يخفى أنه ليس من المحتم وجود توقيع الفريقين على عقد واحد لإلزامهما كليهما بمضمونه بل يكفي أن يكون عند كل منهما صورة بإمضاء الآخر وهذا كل ما يطلبه القانون إذ ليس من المعقول أن يحتم على صاحب الشأن أن يودع توقيعه على ورقة في حيازته هو حر في التصرف فيها، فما دام الأمر كذلك صح لنا أن نقيس الأمر على المراسلة بين الفريقين فإن لدى كل منهما شيئًا بتوقيع الآخر فإذا اجتمع الأمران كونا عقدًا واحدًا بين الاثنين صحيح أن ما في يد الواحد ليس صورة طبق الأصل لما في يد الآخر ولكن مضمون المراسلة يؤدي معنى الإيجاب من جهة والقبول من جهة أخرى وهذا كل المطلوب لصحة العقود فإن القانون لا يفرض ألفاظًا معينة في العقود بل يكتفي بالنية المراد بيانها والمعنى المطلوب إيراده وكل هذا متوفر على أتمه في المراسلة بين المتعاقدين بقي أمر آخر يكفي وحده لأن ينقض رأي (توليه) فإن المراسلة ليست من العقود العرفية أبدًا لأن العقد العرفي يحتوي وحده على كل التعهدات المتفق عليها ويوقع عليه المتعاقدان وليس الأمر كذلك في المراسلة لأن بيان ما يشترطه الواحد من المتعاقدين فقط يكون مكتوبًا وموقعًا عليه بإمضاء صاحبه، فالفريقان لم يقصدا بالمراسلة كتابة عقد بل توضيح الأفكار وعرض ما يقبله كل من الآخر، ولا نزاع بأن العقد العرفي نتيجة المباحثة وصفوة ما اتفق عليه المتعاقدان بعد طول الأخذ والعطاء بناءً على كل ما تقدم يرى المنصف أن المراسلة بالكتابة لم تكن مقصودة عندما اشترط الشارع المدني تعدد العقود بتعدد المتعاقدين لأنها ليست من العقود العرفية بل هي تكون تعهدًا إن لم يكن شفاهيًا فلفظيًا على الأقل
ومما يزيد الأمر وضوحًا نصوص القانون التجاري في هذا الصدد فإنه يميز تمييزًا كليًا بين الإثبات بواسطة العقود العرفية وبين الإثبات بالمراسلة، ثم إنه ليس من المعقول أن يضع القانون حواجز منيعة في سبيل حرية التعاقد فيحدد ويحرم التعاقد بالمكاتبة أو يقلل اعتبارها، كلا بل الأمر بالعكس فإنه يجب تفسير روح التقنين تفسيرًا موافقًا لحرية التجارة وتنشيطها وملاحظة السرعة في التعاقد بالمراسلة تارة وبالتلغراف أخرى وكل هذه أمور لا يمكن أن يتوفر معها شرط وجود صورتين متماثلتين مع كل من المتعاقدين حتى يصح أن يكون عقدًا عرفيًا، وما دام القانون يجيز البيع الشفاهي مثلاً يجوز من باب أولى البيع بالمراسلة ولا يخفى أن مبدأ القانون التجاري ومبدأ القانون المدني واحد وكل ما في الأمر أن قانون التجارة أوضح بيانًا فيما يخص التعاقد بالكتابة فهو يعتبر مكاتبات التجار رابطة بينهم ويفرض فرضًا محتمًا وجوب أخذ صورة (كوبيا) من كل مراسلة تصدر وما ذلك إلا لجعلها دليلاً من أدلة الإثبات عند مضاهاتها على المراسلات التي ترد فلا نزاع إذًا في أنه يجوز للناس أن يتعاقدوا بالمراسلة كيفما شاؤوا، ولكن هل يجوز ذلك في كل العقود، فإننا إذا قررنا أن المراسلات المتبادلة بين المتعاقدين تحتوي على إيجاب وقبول الفريقين فيجب القول بأن كل عقد يشترط الإيجاب والقبول فقط لصحته كان صحيحًا فيخرج من ذلك العقود الرسمية فإنها لا يكفي فيها الإيجاب والقبول بل لا بد من وساطة موظف مختص ليكون العقد تامًا صحيحًا، فلا يجوز الرهن العقاري التأميني بالكتابة لأن القانون يقضي أن يكون هذا العقد رسميًا ومثله الهبة أما عقد الزواج فلا يصح بالمكاتبة عند الإفرنج الذين يسيرون على نصوص قانونهم المدني وأما التابعون للدولة العلية الخاضعون للقانون المصري فيجب اتباع نصوص الشريعة الإسلامية بالنظر للمسلمين منهم وأما المسيحيون فنصوص شرائعهم، أما الشريعة الإسلامية فتجيز التعاقد للزواج بالمراسلة شأن كل العقود المدنية، فإذا كتب رجل إلى امرأة يعرض عليها الزواج وأجابته راضية تم العقد صحيحًا إذا توفرت فيه بقية شروط الزواج طبعًا) لا بل يجوز لوكيل الزوج أو الزوجة أن يتم العقد بالمراسلة أيضًا
قلنا لا يجوز عقد الرهن العقاري التأميني بالمراسلة بل لا بد أن يكون رسميًا ولكن هل يجوز لأحد الناس أن يرسل كتابًا لآخر يوكله فيه بأن يعقد هذا الرهن إن محكمة النقض والإبرام في فرنسا قد قررت مبدأ عدم جواز هذا التوكيل وذلك بعد طول تردد وبحث والحجة على ذلك هي أن القانون يفرض وجوب تداخل موظف عمومي عند قبول الراهن بالرهن، ولا نزاع بأن قبوله وقع عند إرساله توكيلاً أو تفويضًا بالكتابة وما زال هذا القبول قد وقع مخالفًا للقانون أي أنه لم يقع في حضرة الموظف العمومي المختص فلا عبرة .
ومن المبادئ القانونية العمومية أنه إذا حتم القانون وجوب الرسمية في عقد من العقود فالتوكيل الذي يؤدي إلى عمل هذا العقد يجب أن يكون رسميًا أيضًا وهذا المبدأ مقرر في محاكمنا المصرية بلا نزاع فإن وكلاء الشركات والمصارف يبيعون ويشترون بالنيابة عن الشركات والمصارف بموجب توكيل رسمي محرر أمام كاتب العقود الرسمية أما في كل الظروف الأخرى فيجوز توكيل الغير بالمراسلة لعقد العقود وقد صرح القانون بذلك (بالمادة (9185) مدني فرنساوي) متبعًا بذلك العادات التي سار الناس عليها في معاملاتهم وخصوصًا في كتابتهم الرسائل المؤمن عليها وما يقال في العقود العرفية يقال أيضًا في الضمانة فإنها جائزة بالمراسلة يسري فعلها على الضامن والمضمون فلو كتب رجل لدائن يقول له كن مطمئنًا فيما يخص دينك على فلان وأن لا شيء يضيع عليك يعد هذا القول ضمانًا للمدين يجيز للدائن أن يتقاضى الكاتب بصفته ضامنًا وأما في القانون التجاري فإن إعطاء ضمانة مستقلة وبمقتضى المراسلة أمر جائز يعمل به كل التجار وهو ما يسمونه على أن هناك أمرًا اختلف القانونيون فيه وهو جواز قبول التحويل بالمراسلة أي بدون وضع كلمة القبول على التحويل نفسه بل برسالة ترسل للساحب - فالقائلون بجواز الأمر يستندون على المبدأ القانوني القائل بأن القبول ليس شرطًا في التحاويل بل كل ما يجب فيه أن يكون المسحوب عليه مبينًا ولا عبرة بقبوله أو بعدم قبوله، والحقيقة أن قانون التجارة يعتبر السندات تحت الإذن تنفيذًا لعقود التحويل نفسها وأن موافقة القابل للتحويل ليست ضرورية لتكوين العقد فإذا قبل المسحوب عليه التحويل فقبوله لا يعد إلا قبولاً جديدًا يضاف إلى قبول موجود من قبل فيصح والحالة هذه فصل القبول عن العقد. وقد كان القانون الفرنساوي القديم يعترف بصحة القبول بواسطة كتابة مستقلة ولم يغير القانون الجديد شيئًا من هذا فوجب إذًا اتباع هذا المبدأ وزيادة على ذلك فإن القانون الفرنساوي خلافًا للقانون البلجيكي لا يشير إلى محل وضع القبول على التحويل نفسه أو على ورقة مستقلة فعدم إشارته هذه تدل على أنه لا يمانع في اعتبار القبول صحيحًا إذا جاء في ورقة التحويل نعم أن القانون يعترض أو بالحري يظن أن قبول التحويل يكون على ورقة التحويل نفسها ولكنه لا يحتم الأمر تحتيمًا ولا يجعله شرطًا لا يصح القبول بدونه إذ أنه شتان ما بين اشتراط الشيء وبين تخمين وقوعه. وقد يعترض معترض فيقول إن التحويل لا يقع صحيحًا إلا إذا كان على الكمبيالة نفسها فلا يجوز في ورقة خارجة حالة أنه لا يوجد نص في القانون يقضي بذلك فيجب قياس قبول التحويل على التحويل ولكن الحقيقة أنه لا نسبة ولا شبه بين الأمرين فالتحويل إذًا لم يكن على ظهر الكمبيالة لا قيمة له لأن وجوده على الكمبيالة أصل في تعريفه وفي كيانه فإذا لم يكن هناك فلا يسمى تحويلاً ومن يراجع الأعمال التمهيدية التي كتبها الشراح قبل أن وضعوا القانون المدني الفرنساوي يجد فكرة جواز القبول على غير الكمبيالة نفسها سائدة وأما أصحاب الرأي المخالف لهذا فيقولون إن مثل هذه الأمور غير صالحة عمليًا وحاجزة لحرية التجارة وهذا ليس من غرض القوانين في شيء إذ لا يخفى كم يقتضي من الوقت والتعب إذا قبل التحويل على ورقة أخرى غير المكتوب التحويل عليها وما في ذلك من تقييد حركة المبادلة والأخذ والعطاء على أن أهم ما يتمسك به أنصار هذا الرأي قولهم إن القانون قد نص صراحةً على جواز الضمان بالمراسلة فلو كان قصده أن يجيز القبول كذلك لنص مثل هذا النص بيد أن معظم الثقات على الرأي الأول ولا شك أنه يوافق حالة بلاد مثل القطر المصري حيث الناس بعيدون عن الأصول التجارية بعدًا شاسعًا يعملون معظم أعمالهم على قاعدة ليست من القانون بشيء فيجب على القانون الموضوع في مثل هذه البلاد أن يراعي أحوال وعادات أهلية - لا أن يقنن في جهة والتجارة والناس على العموم يسيرون في جهة أخرى.
المبحث الثاني: في شرط صحة التعاقد بالمراسلة إذا صح أنه يجوز للناس أن يتعاقدوا بالمراسلة فما هي شروط هذا التعاقد؟
لا شك أنها اجتماع الإيجاب والقبول، فيجب البحث حينئذٍ في الكيفية التي يقع بها الإيجاب والقبول ثم في كل منهما على حدة
1 كيفية اتحاد الإيجاب والقبول لتكوين العقد بالمراسلة
إذا اجتمع الإيجاب والقبول تم العقد على أنه لا بد من أن يكون القبول واضحًا بسيطًا بدون شرط وإلا لما تم العقد، فإن من يقبل بقيد وشرط لا يعتبر قابلاً بالحقيقة بل إنما هو يعرض عقدًا آخر خلاف الذي عُرض عليه وعندما يتم القبول يرتبط بالعقد فريقا المتعاقدين ولا يستطيعان حل ما ربطاه، وعليه فإذا أرسل القابل تلغرافًا يقول فيه (نعم قبلت) لا يجوز له أن يلحق التلغراف بكتاب يقيد به قبوله أو يعدل عن الكلام الذي سبق صدوره منه (راجع داللوز 65 جزء 3 نوط 22ولا يفرض القانون شرطًا آخر لصحة العقد ما دام الغرض شخصيًا محضًا خلافًا لما كانت عليه الشريعة الرومانية في مثل هذه الأحوال بل يكفي أن تكون المراسلة محتوية على كل ما يريد أن يقوله الموقع عليه ولكن ربما سأل سائل فقال: هل من الضروري وجود التوقيع أو الإمضاء على الكتابة؟ والجواب أن الشراح القانونيين اختلفوا في ذلك شأنهم في كل الأمور فقال عدد منهم ليس بقليل إن التوقيع ليس من اللازم المحتم لصحة التعاقد، فإذا كان خط الكاتب معروفًا أو كان اسمه واردًا في الكتابة بما يفيد قبوله أو إذا لم يكن هناك شك في أنه هو الكاتب فلا شبهة في أنه مقيد بما كتب ولو لم يوقع بإمضائه. قالوا: وإذا سلمنا بخلاف هذا الرأي جعلنا التعاقد بالتلغراف مستحيلاً لأنه لا يحمل خط الكاتب ولا توقيعه، وهذا هو الرأي الراجح المعمول به. ولكن ما القول في تاريخ المراسلة وهل هي محتمة ؟ والجواب أنه إذا حدث اختلاف في تاريخ وصول المراسلة أو إرسالها فيجب البحث عن التاريخ وأما في غير هاتين الحالتين فلا يفيد وضع التاريخ أو عدم وضعه شيئًا لأن التاريخ يدل على الزمان من حيث السبق واللحوق وليس بدليل على الصحة
الإيجاب
مهما كانت سرعة المخابرات بين المتعاقدين فلا بد من مضي زمن بين الإيجاب وبين القبول فقد يحدث أن يزول الإيجاب في هذه المدة فيقع القبول باطلاً، وزوال الإيجاب يكون إما بموت صاحبه أو فقده أهلية المتعاقد أو برجوعه عن كلامه أو بفوات المدة التي ضربها موعدًا للقبول فإذا مات الموجب قبل أن يتم العقد فلا فائدة للقبول الآتي بعد ذلك ولا يتم العقد، لأن الوفاة جاءت قبل تقرير الحق بينه وبين من كان شارعًا في التعاقد معه سواء كان الحق له أو عليه، ولذا فلا يلحق ورثته شيء من الحقوق التي لم تكن له عند وفاته، وكذلك الأمر فيما إذا جن قبل وقوع القبول، على أنهم قد زعموا بوجوب استثناء أمر من هذه القاعدة فقالوا لو عرض دائن على مدينه طريقة لوفاء دينه ثم توفي قبل أن يقبل المدين بما عُرض عليه فلا يمنع موت الدائن المدين من الوفاء بموجب الطريقة التي عرضت عليه بيد أنه يجب التروي في وجوب هذا الاستثناء صحيح أنه ما زال العرض في فائدة المدين فالقبول الضمني يكفي ولكن يجب أن يكون الإيجاب معروفًا جيدًا عند المدين قبل موت الموجب حتى يصح أن يؤول سكوت المدين قبولاً، فإنه ليس من المعقول ولا بالأمر المنطقي التسليم بهذا الاستثناء على عمومه بل يجب الاحتياط في التأويل وبالرغم من ذلك فالقانون الألماني التجاري يقرر وجوب استثناء قاعدة أقل إقناعًا من القاعدة السابقة إذ نص قائلاً إن الإيجاب الصادر من تاجر في أعمال تجارية لا يزول بموته إلا إذا ثبت قصده المخالف لهذا إما بإقرار منه أو من ظروف الحال) وما قيل في الموت يقال في فقد الأهلية القضائية المتسببة إما عن جنون أو تفليس أو ما أشبه ذلك ويسقط الإيجاب إذا رجع الموجب عنه قبل القبول لأنه يكون قد وعد وعدًا ثم رأى أنه لا يستطيع إتمامه إما لضيق ذات يده أو لظروف جعلت ما وعد به غير موافق، ولكن لا بد في هذه الأحوال من معرفة ما إذا كان رجوع الموجب عن كلامه لا يكون سببًا لمطالبته بتعويض من الشخص الذي عرض عليه الإيجاب ومعرفة المدة التي يستطيع الموجب في أثنائها أن يرجع عليه إيجابه، ثم معرفة الأحوال التي لا يستطيع بها الموجب أن يرجع عن كلامه المطالبة بتعويض - ليس من المعقول أن يكون للإنسان ملء الحرية بأن يعد ويرجع عن وعوده حالاً لأننا إذا خولناه هذا الحق المطلق فإنه يسبب بسوء نيته أو إهماله أو عدم خبرته ضررًا عظيمًا للغير، فقد يكون هذا الغير تاجرًا اشترى بضاعة بناءً على طلب الموجب ثم يرى نفسه ملزمًا بهذه البضاعة عند رجوع الموجب عن إيجابه أو يكون قد استأجر مخازن لخزن البضائع أو أنفق مصاريف لإرسالها كما أنه قد يتأتى لمن عرض عليه الإيجاب أن يكون قد خسر بارتفاع سعر من الأسعار المتغيرة أو نزوله لأنه وثق بكلام الموجب فأوقف بيعه أو أسرع فيه ففي مثل هذه الأحوال لا بد لنا من القول بأن على الواجب دفع تعويض ما لحق بمن تعامل معه من الخسارة مراعين في ذلك ظروف الرجوع عن الإيجاب والظروف التي وجد فيها القابل فنقدر التعويض قدره أو لا نحكم بتعويضٍ ما ومن الشراح من يقول بأن ليس على الموجب من ملام ولا حرج برجوعه في كلامه فإنه لم يخرج عن دائرة حقوقه في هذه الأحوال لأن له حق الرجوع عن غرضه ما دام لم يقيد بالقبول ومن استعمل حقه لا يسأل عن نتيجة الاستعمال لأن الضرر اللاحق (إذا كان هناك ضرر) لم يكن متأتيًا عن خطأ ارتكبه الموجب بل كان من الواجب على من تعامل معه أن يحسب لهذا الرجوع حسابًا ولا يقيد نفسه أما القائلون بالتعويض فينسبون وجوبه إلى الغش الذي أتاه الموجب برجوعه عما عرضه في وقت غير لائق لأن القابل كان قد وثق به وحسب حسابًا لكلامه
ولكن هذا الفرض - فرض الغش مردود لأنه لا يمكن أن يكون هناك غش تعاقدي إذا لم يكن العقد قائمًا ولا شك في أن العقد غير قائم لعدم التقاء الإيجاب بالقبول. ويذهب فريق من القانونيين إلى أن في عدم قيام الموجب بكلامه ورجوعه عنه قبل وقوع القبول محلاً للتعويض استنادًا إلى أن الذي جاءته رسالة الموجب قد يكون شرع في التنفيذ قبل أن تجيئه رسالة الرجوع عن الإيجاب فإذا أحب الموجب أن يتخلص من مسؤولية التعويض كان عليه أن يعلن الآخر قبل أن يشرع هذا في التنفيذ وما زال لم يفعل حق عليه الخطأ وبالتالي التعويض (راجع المادة (147) من القانون المدني الفرنساوي. والرد على هذا الرأي مثل الرد على ما تقدمه فليس أمامنا عقد تام حتى نقول بوجود خطأ في الأمر بل لدينا مشروع عقد يتم أو لا يتم فلا يصح قياس هذه الحال على ما جاء في القانون من وجوب إلزام من كان سببًا في بطلان البيع بالتعويض المناسب لأن التنفيذ في حالة بطلان البيع قد تم وانتهى ثم أبطل بعدئذٍ وأما في حالتنا فلم يتم شيء من ذلك. فكل هذه النظريات القائلة بوجوب التعويض على الموجب لرجوعه عن كلامه هي خطأ إذا كان سببها العقد إذ ليس هناك عقد يوجب الرجوع عنه التعويض وللموجب الحق القانوني دائمًا أن يرجع عن إيجابه ما زال لم يقيد بقبول والمتعامل معه أهمل وأخطأ إذ لم يحسب حساب هذا الحق للموجب على أن التعويض الذي يسأل به الموجب لرجوعه عن كلامه ليس تعويضًا أصله الإخلال في العقد بل تعويض مبناه القاعدة القانونية العامة القاضية بأن كل من الحق بغيره ضررًا ملزم بتعويضه بقي علينا أن نقدر هذا التعويض ولا نطيل الشرح في ما قاله البعض في تقدير كميته فكلها أقوال متضاربة ليست في شيء من روح القانون والحقيقة أن للقاضي أن يقدر هذا التعويض كيف شاء ناظرًا إلى ظروف القضية وإلى الخسارة الواقعة أو الربح المفقود مدة الرجوع عن الإيجاب من المقرر بالإجماع أن الرجوع عن الإيجاب جائز قبل أن تكون الرسالة الحاملة له وصلت إلى المرسل إليه فإنه لا عقد في هذه الحالة بل مجرد وعد طرف واحد فإذا قدر الموجب أن يصل إلى الرجل الموجهة إليه الرسالة قبل أن تصل الرسالة إليه يستطيع أن يلغي قبوله الوارد بتلك الرسالة وكانوا فيما مضى يقولون إنه إذا أرسلت الرسالة بطريق البر وأحب المرسل أن يرجع عما جاء فيها يجب أن يسير في البحر مسرعًا فيصل قبل رسالته ويلغي ما كان أثبته أما الآن فلا أسهل من كتابة تلغراف يرسله قبل أن تصل الرسالة ولكن إذا وضع الموجب رسالة الرجوع عن الإيجاب في البريد بعد أن يكون قد أرسل رسالة الإيجاب ووصل الكتابان معًا إلى المرسل إليه فهل يعد الإيجاب لاغيًا؟ يجيب بعضهم: نعم إن الإيجاب يعد لاغيًا لأن هنالك كتابين جاءا في وقت واحد فيكونان والحالة هذه مجموعًا واحدًا يحذف بعضه البعض الآخر لتناقضهما (راجع حكم محكمة بورود الصادر في 15 يونيو سنة 1853 المنشور في مجموعة دالوز العدد (55) الجزء (2) صفحة (322))، على أننا لا نرى الحق في جانب هذا الرأي إذ ليس لدينا في هذه الحالة كتاب واحد ذو صفحتين تناقض إحداهما الأخرى كما يزعم ذوو هذا الرأي بل الحقيقة أن لدينا كتابين غير متشابهين أُرسل أحدهما قبل الآخر، ولا يصح أن تعتبر الكتاب الذي قرئ أولاً حجة فنعمل بموجبه لأننا نكون قد تركنا للصدفة حق اعتبار وجود الإيجاب أو عدمه ولذا فلا بد لنا من أخذ تاريخ الكتابين قياسًا نمشي عليه بأقدمهما تاريخًا يحتوي على الإيجاب ويجب الأخذ به ولا عبرة بالذي جاء بعده ولكن قد يعترض معترض بقوله إن القاعدة تقضي بأنه ما زال الإيجاب على الطريق فالرجوع عنه ممكن فكيف حرم الموجب من الرجوع عن إيجابه والجوابنعم إن القاعدة تخول الموجب حق الرجوع عن إيجابه قبل القبول ولكن هذا الحق لا يخرج عن كونه من الحقوق الممكن استعمالها لا من الحقوق المحتم وجودها بدون دليل فسكوت الموجب عن الرجوع كل المدة التي مضت حتى وصل الكتابان معًا دليل عند القابل على إيجابه وأنه لا يرغب الرجوع، اللهم إلا إذا كان هذا الوقت المار طويلاً لدرجة أن يفترض فيه عدم إمكان بقاء الموجب راضيًا بما كتب بل بالعكس ولنضرب على ذلك مثلاً لسهولة تأدية المعنى المقصود: كتب تاجر في ليفربول في أول أكتوبر إلى عميله بإسكندرية يطلب منه ألف قنطار قطن ويطلب منه إرسالها بأول فرصة، ومضى على هذا الكتاب ستة أشهر ثم في 14 إبريل كتب التاجر السكندري لعميله يخبره بأنه شارع في تحضير القطن وإرساله ثم كتب له ثانيةً في أول مايو يقول إنه قد سلم القطن لإدارة المركب المسافرة فجاوبه العميل الإنكليزي لا أرغب في هذا القطن وأن قبولك إرسال القطن لي بعد مضي ستة أشهر على طلبي قد جاء متأخرًا فإنك لم تنفذ طلبي بأول فرصة لي كما طلب منك. ولكن قد يرد عليه بأنه كان من الواجب عليك أن تقول هذا القول عندما كتب إليك عميلك يخبرك بالشروع في تنفيذ الطلب فسكوتك يعد رضاءً بما فعل العميل، على أن مثل هذه الحالة لا تخلو من الصعوبة والحرج والحكم في مثل هذه المسألة ليس من الأمور المنصوص عليها في القوانين بل تتركه لرأي المحكمة التي تقدر الظروف والعادات التجارية قدرها وتفسرها التفسير اللائق وقد حكمت محكمة باريس التجارية مفسرة هذه العادات فقضت ببطلان الإيجاب إذا مضت عليه المدة اللازمة لوصول القبول ولم يصل، وقالت إنه على القاضي أن يبحث في كل هذه الظروف عن غرض الفريقين من عبارتهما وأن يراعي السرعة في تجهيز الطلبات، الأمر الذي يتوقف عليه تقدم التجارة أما الأحوال التي لا يستطيع بها الموجب أن يرجع عن كلامه فهي ما أجيز أن يبقى إيجابه معروضًا مدة من الزمن، ففي مثل هذه الظروف لا يقدر أن يقصر هذه المدة أو يغير فيها ومهما كانت المدة المعينة للدين فبانتهائها يستطيع الموجب أن يرجع عن عرضه ويكون في حل من توجيه العرض وجهة أخرى، فإذا جاء القبول بعد ذلك وقع متأخرًا ولم يتم العقد لمجيء القبول في زمن لا عرض فيه ورب سائل يقول: ما هي مدة العرض؟ وهل هي مفروضة بحكم القانون أو العادة أو مرتبطة بإرادة الموجب والجواب على ذلك أنها محددة في بعض القوانين كالقانون النمساوي وقانون ولاية لويزيانا في الولايات المتحدة أي أن المستغني ضرب موعدًا معينًا وحتم سقوط العرض بفوات الميعاد
وأما في معظم البلاد المتمدينة الأخرى فالعرض خاضع لإرادة الموجب ولأحكام الظروف والأحوال ولكنه مقيد بالمدة أو الميعاد المحدد للقبول
فالموجب الذي يكتب لشخص يعرض عليه أمرًا يقول في معظم الأحوال إنني مرتبط بما أعرض لمدة 15 يومًا مثلاً أو إنني مرتبط بما أعرض حتى يصلني رد منك، فينطوي تحت هذه المراسلة عقد ذو نيتين الأولى نية الموجب أن يرتبط بعقد والثانية أن لا يرجع عن هذا الارتباط مدة معلومة من الزمن
على أن مثل هذا العرض الوارد في الرسالة يلغى أو يعدل بالتلغراف فإن الموجب يستطيع عقب إرسال رسالته أن يبعث بتلغراف يعدل في العرض أو يغير فيصير عمله قانونيًا لا عقاب عليه ولا يعد راجعًا في عرضه، لأن العبرة في تتميم العقد وقد تم القبول على الإيجاب فالتلغراف الذي يصل قبل الرسالة يزيل عرضًا محددًا في الرسالة فإذا وصلت هذه إلى الجهة المرغوبة وصلت وقد علم المستلم أن النية المعروضة فيها قد تبدلت بالتلغراف الذي سبقها، فإذا أرسل الموجب رسالته أو تلغرافه وجب عليه أن ينتظر القبول، وهذا الانتظار تختلف مدته باختلاف العادة التجارية أو حكم القانون فإذا لم ينتظر وعدل في عرضه أو بدل كان عرضه لدعوى تعويض من القابل وما هو الحكم إذا مات أحد المتعاقدين أثناء مدة العرض؟ لا صعوبة في الإجابة على هذا السؤال إذا كان الميت هو الموجب فإن بموته يفض الأمر ولا يتم العقد النهائي أي أن الأمر يكون مقصورًا على الشطر الأول من العقد النهائي وهو عقد العرض Contrat de proposition وأما العقد النهائي المتمم للواجبات والحقوق المتبادلة فقد أصبح مستحيلاً لموت الموجبولكن قد يموت الفريق الآخر فما حكم أمره؟ ولنضرب مثلاً على ذلك لتقريبه للأفهام كتب زيد إلى بكر يعرض عليه شراء بيته بثمن معين وضرب له موعدًا للرد.. أخذ بكر الرسالة ومات قبل أن يجيب وقبل أن يفوت الميعاد المضروب فهل يحل ورثته محله في حقه أم لا؟ في الرجوع إلى المبادئ القانونية الأساسية جواب على هذا السؤال إذا كان الموجب قد عرض عرضًا يستدعي عقدًا ومرتبطًا بشخصية المتعاقدين وهو ما يسمونه intuitn personceفلا شك أن الورثة لا يستفيدون من الأمر لأن شخصية مورثهم كانت قوام العقد، وهذه لا تنتقل إليهم وأما في سوى هذه الحال فالقاعدة أن الورثة تحل محل المورث في حقوقه وواجباته، فليس لهم أن يعتبروا العقد تامًا بل لهم حق القبول الآيل لهم من حق العرض الذي اكتسبه مورثهم، فإذا قبلوا تم العقد، على أنه يشترط في قبولهم أن يكون بالإجماع أي أن يصدر من الورثة جميعًا غير منقسمين لأن حق قبول العرض لا يتجزأ. سواء حتم القانون ميعادًا للعرض أم كان ذلك متروكًا للعارض في رسالته أو للقاضي لتقديره فلا بد في كل هذه الحالات أن تصل رسالة الموجب للقابل، فهب أن الرسالة أرسلت إرسالاً دقيقًا لا خطأ فيه ولكن مصلحة البريد أو التلغراف لم تسلمها إلا بعد فوات الميعاد المضروب للقبول فهل تم العقد؟ أرسل زيد في مصر إلى عمرو في الإسكندرية رسالة يعرض عليه فيها بيع بضاعة معلومة بسعر معلوم وفرض عليه الإجابة (برجوع البوستة فتأخرت الرسالة لسبب خارج عن إرادة المتعاقدين ولم تصل لعمرو إلا بعد إرسالها بخمسة أيام فأرسل عند استلامها يقول لزيد قبلت البضاعة وقبلت سعرك وارتفعت الأسعار في أثناء هذه الأيام فأجاب زيد يقول لعمرو إنك تأخرت في الرد كثيرًا فإن المدة بين إرسال رسالتي ووصولها إليك يجب أن لا تزيد عن يوم ولك يوم مثله لوصول رسالتك وقد فرضت عليك الرد مع البريد الراجع فما بالك تأخرت خمسة، إني أرفض قبولك وأرجع عن عرضي. عرضت قضية مثل هذه في لندن أمام المحكمة التجارية المدنية <king’s Beach فحكمت بأن العقد تم بالرغم من التأخير الذي وقع، وقالت إن العرض حصل تحت شرط الإجابة برجوع البريد in course of post وقد تمت الإجابة بالبريد ولا عبرة بتأخير وقع من مصلحة البريد لا علاقة للقابل به ولا ذنب عليه فيه وقد يعترض على المبدأ المنطوي تحت هذا الحكم بأن الموجب (العارض) لم يصله القبول في الميعاد المعقول المحدد فكان مصيبًا في اعتقاده أنه في حل من عرضه فلا يصح إلزامه بتنفيذ عقد جاء القبول متأخرًا فيه صحيح أن القابل لم يخطئ ولكن العارض أيضًا لم يذنب فلا يصح إلقاء التبعة عليه أما محاكم فرنسا (محكمة ديجون - داللوز 67 - 66 - 1914) ومحاكم ألمانيا فقد اعتبرت العقد غير تام لأن القبول جاء بعد الميعاد وألقت تبعة عدم إتمام العقد على مرسل الكتاب. ولا شك أن ما يعترض به على الحكم الإنكليزي يعترض به على هذه الأحكام أيضًا، ومحل البحث في المسؤولية الناتجة عن مثل هذه الأمور يقودنا إلى البحث في مسؤولية مصلحة البريد ومصلحة التلغراف مما سنبينه في ما بعد
القبول
عندما يتعاقد رجلان بعيد أحدهما عن الآخر فالإيجاب يكون دائمًا بالكتابة فإن الموجب إما أن يرسل خطابًا يعرض فيه ما يرغب التعاقد عليه أو يرسل بيانًا بأسعاره أو ما شاكل من أنواع العرض التجاري أما القبول فلا يكون بالكتابة في كل الأحوال، فقد يعد قابلاً الشخص الذي نفذ عرض الموجب وقد يعد قابلاً أيضًا إذا سكت في بعض الظروف على عرض الموجب فإذا أجاب القابل بالكتابة انتفى الإشكال ووقع العقد لتلاقي الإيجاب بالقبول على أن هناك صعوبة واحدة تطرأ في حال مرور الإيجاب بالقبول دون أن يلتقيا، فقد يكتب زيد يعرض على عمرو أن يبيعه منزله بألف جنيه وكان عمرو قبل أن يصله الكتاب قد كتب إلى زيد يسأله شراء المنزل نفسه بألف ومائة جنيه ووصل كتاب زيد لعمرو في ساعة وصول كتاب عمرو لزيد، فبأي ثمن تم البيع؟ أنه يقع بيعًا نافذًا تامًا بألف ولكن قد يعترض بعضهم ويقول إن الفريقين لم يتفقا على الثمن اتفاقًا تامًا ولم تلتقِ الرغبتان إلا عرضًا وعليه فلا يكون الموجب مقيدًا بثمنه ولا عبرة بالمبدأ القائل إن من يستطيع الكثير يستطيع القليل لأنه ليس بالمبدأ الساري في كل الأحوال على أن العدل ومبادئ العقل السليم تقضي بأن يكون البيع واقعًا بألف فإن عمرو الذي قبل أن يشتري بألف وماية يقبل بلا نزاع أن يشتري بألف، كما أن لا شك في أن زيدًا عندما وصله كتاب عمرو يعرض الشراء بألف وماية يقول في باله إن كتابي قد وصله الآن فيكون قد عدل عن الألف والماية وأخذ بما عرضته عليه أي بالألف فقط، وعليه كتاب عمرو قبولاً وأما القبول بتنفيذ شروط العرض بلا كتابة فكثير، وأعظم مثال له التوكيل، ولا تقع تحت حصر في المسائل التجارية، فقد يعرض أحدهم شيئًا للبيع بثمن محدود فيرسل الشاري الثمن من بلد آخر بعيد فيتم البيع وقد يكون السكوت في أحيان كثيرة قبولاً ولو لم يبدُ من القابل شيء يدل على التنفيذ وتفسير السكوت وعده قبولاً - موقوف على نوع المعاملة وسابقة علاقة المتعاقدين الواحد منهم مع الآخر حتى يدلل بها على القبول بالعقد بالسكوت.
متى يتم التعاقد بالمراسلة
لا نزاع أن لا تعاقد إلا بعد أن يقبل الذي يكون قد عرض عليه الأمر، وأما النزاع ففي الوقت الذي يعد في حكم القانون ميعادًا تم فيه العقد، فهل يتم العقد
1 - عندما يكتب القابل أنه قبل.
2 - لا يتم إلا بعد أن يكون كتاب القبول قد فارقه
3 - هل يتم بوصول الكتاب للعارض
4- هل يتم عند علم العارض بمضمون الكتابة
هذه أحوال أربعة يصح أن يكون ميعاد العقد عند وقوع أي منها ففي ألمانيا مثلاً ترى معظم علماء القانون يأخذون بالنظرية المنطوية تحت الفرض الرابع أي أنهم يشترطون علم الموجب بقبول عرضه لكي يتم العقد، فلا بد إذًا من وصول الكتاب ليده وعلمه بمضمونه فإذا كان قد عرض أن يتعاقد مع كثيرين فيكون آخر كتاب قبول جاءه تاريخًا لإتمام العقد، ويقولون تفسيرًا لذلك إن لا بد لنية الموجب أن تتحد بنية القابل فيتضامان ويتعانقان، ولا يتم التعانق إلا بعلم الموجب بالقبول وتكون النيتان قبل العلم ساريتين متحاذيتين لا يكونان عقدًا إلا بالانضمام - وهو علم الموجب بقبول عميله، فإن النية وإن عبر عنها صاحبها لا تعد في حكم الموجود إلا إذا علمت وعلى ذلك قالوا إنه في حالة الشركة إذا كتب شريك يطلب الخروج من الشركة فلا تسقط عنه تعهداته إلا إذا علم الشركاء الآخرون بذلك، فشبهوا الكتاب بوكيل أخرس وجعلوا حكم كلامه حكم كل ما يوكل به أي أن التوكيل يبقى بلا أثر حتى ينفذ فإذا نفذ الوكيل توكيله سرى مفعوله على الشيء الذي وضع لأجله . فالكتاب لا ينفذ مهمته إلا بعد أن يكون قد قرئ، فكما يصح للموكل أن يرجع بتوكيله قبل تنفيذ التوكيل، كذلك القابل له أن يرجع بقبوله ما دام الشخص الذي أُرسل إليه الكتاب لم يقرأه بعد - وما مثل الكتاب في هذه الحال إلا مثل عقد في مجلس حضور فإنه لا يتم إلا إذا سمع الموجب جواب القبول ولا يكفي أن يكون القابل قد فتح فاه ليقبل بل لا بد من وصول كلامه لأذن الموجب فالكتاب ليس إلا سلسلة ألفاظ مصورة على الحروف موجهة للأعين ولا تفقه إلا بإتمام التلاوة.
وقد ضرب أحد علماء القانون الفرنساوي (مرلن) مثلاً يستلفت النظر لتأييد هذا المبدأ فقال: ابتدأت المفاوضة بين شخصين متواجهين أحدهما أصم وهو الموجب فعرض على مجالسه بيعًا فقبله ولكن الأصم لم يسمع ما أجاب به صديقه فطلب منه الجواب كتابةً فأخذ ورقًا وبعد أن كان قد قبل ولم يسمع كتب على الورقة لا أقبل، فلا شك أن العقد لا يتم وما هذا إلا دليلاً عمليًا من ألوف الأدلة التي تؤيد ما ذهبنا إليه من وجوب علم الموجب بالقبول حتى يتم العقد، فوقوع القبول بعد الإيجاب لا يكفي إن لم يعلم صاحب ذاك ما قاله صاحب هذا، على أن هذه النظرية لا تخلو من مواضع ضعف تجعلها عرضة للانتقاد، فإن تحتيم معرفة العارض بقبول عرضه يفتح الباب لطلب القابل أن يعلم هو أيضًا بقبول قبوله وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية له فيتعذر على إنسان أن يعقد عقدًا بالكتابة.
ويردون على المثل الذي ضربه (مرلن) ويقولون أن لا تشابه بين حال الأصم الذي لم يسمع وحال الذي أرسل كتابه في البريد فإن العقل يأبى التسليم بصحة العقد إذا لم يسمع الموجب فإذا قال القابل (لا)، ثم رجع وكتب (نعم) فليس معنى ذلك أنه رجع فيما تعاقد عليه بل معناه أن كلمته الأولى اعتُبرت كأنها لم تكن لعدم تمكن المخاطب من سماعها . وقالوا أيضًا في نقد هذه النظرية إنها تجعل القابل تحت رحمة الموجب وأمره وعرضة لكل مؤثرات سوء النية إذ تفرض وجوب علم الموجب بالقبول فتفتح لهذا الموجب بابًا واسعًا للهروب من العرض أو من تأخيره كأن لا يقرأ الكتاب أو لا يفتحه أو يهمل في أخذه من البريد توصلاً إلى القول بأنه لم يعلم القبول فيبني على ذلك نتائج لفائدته دون فائدة القابل، وهي تفرض فضلاً عما تقدم عبء إثبات العلم بالقبول على القابل نفسه وفي هذا ما فيه من الإجحاف بمبدأ العدل والمساواة. | |
|
نادر نجم نجوم المنتدى
عدد المساهمات : 1074 رصيد نقاط : 8421 رصيد حسابك فى بنك نور : 40 تاريخ التسجيل : 21/02/2010
| موضوع: رد: التعاقد بطريقة المراسلة الخميس سبتمبر 30, 2010 2:14 am | |
| | |
|